[ ص: 208 ] يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون .
ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدو كي لا يثبطهم ما حصل من الهزيمة ، فأمرهم
بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال ، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر ، وهذا أشد الصبر ثباتا في النفس وأقربه إلى التزلزل ، وذلك أن الصبر في وجه صابر آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه ، ثم إن هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتى يمل قرنه فإنه لا يجتني من صبره شيئا ، لأن نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبرا ، كما قال
زفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام :
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه :
لا أنت معتاد في الهيجا مصابرة يصلى بها كل من عاداك نيرانا
وقوله ورابطوا أمر لهم بالمرابطة ، وهي مفاعلة من الربط ، وهو ربط الخيل للحراسة عن غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدو ، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائما على حذر من عدوهم تنبيها لهم على ما يكيد به المشركون من مفاجأتهم على غرة بعد وقعة
أحد كما قدمناه آنفا ، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلما أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظا من عدوهم . وفي كتاب الجهاد من
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : باب
فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا إلخ . وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدو الوصول منها إلى الحي مثل الشعاب بين الجبال . وما رأيت من وصف ذلك مثل
لبيد في معلقته إذ قال :
ولقد حميت الحي تحمل شكتي فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
فعلوت مرتقبا على ذي هبوة حرج إلى إعلامهن قتامها
حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها
[ ص: 209 ] فذكر أنه حرس الحي على مكان مرتقب ، أي عال بربط فرسه في الثغر . وكان المسلمون يرابطون في ثغور بلاد فارس
والشام والأندلس في البر ، ثم لما اتسع سلطان الإسلام وامتلكوا البحار صار الرباط في ثغور البحار وهي الشطوط التي يخشى نزول العدو منها : مثل رباط المنستير
بتونس بإفريقية ، ورباط سلا
بالمغرب ، وربط
تونس ومحارسها : مثل
محرس علي بن سالم قرب
صفاقس . فأمر الله بالرباط كما أمر بالجهاد بهذا المعنى . وقد خفي على بعض المفسرين فقال بعضهم : أراد بقوله ورابطوا إعداد الخيل مربوطة للجهاد ، قال : ولم يكن في زمن النبيء - صلى الله عليه وسلم - غزو في الثغور . وقال بعضهم : أراد بقوله ورابطوا انتظار الصلاة بعد الفراغ من التي قبلها ، لما روى
مالك في الموطأ ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341468أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وقال : فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط . ونسب هذا
nindex.php?page=showalam&ids=12031لأبي سلمة بن عبد الرحمن . قال
ابن عطية : والحق أن معنى هذا الحديث على التشبيه ، كقوله
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341469ليس الشديد بالصرعة وقوله
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341470ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، أي وكقوله - صلى الله عليه وسلم -
رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر .
وأعقب هذا الأمر
بالأمر بالتقوى لأنها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح .