وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا .
لا جرم أن الكراهية تعقبها إرادة استبدال المكروه بضده ، فلذلك عطف الشرط على الذي قبله استطرادا واستيفاء للأحكام .
فالمراد بالاستبدال طلاق المرأة السابقة وتزوج امرأة أخرى .
الاستبدال : التبديل . وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير . في سورة البقرة . أي إن لم يكن سبب للفراق إلا
إرادة استبدال زوج بأخرى فيلجئ التي يريد فراقها ، حتى تخالعه ، ليجد مالا يعطيه مهرا للتي رغب فيها ، نهى عن أن يأخذوا شيئا مما أعطوه أزواجهم من مهر وغيره
[ ص: 289 ] والقنطار هنا مبالغة في مقدار المال المعطى صداقا أي مالا كثيرا ، كثرة غير متعارفة . وهذه المبالغة تدل على أن إيتاء القنطار مباح شرعا لأن الله لا يمثل بما لا يرضى شرعه مثل الحرام ، ولذلك لما خطب
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب فنهى عن
المغالاة في الصدقات ، قالت له امرأة من
قريش بعد أن نزل . يا أمير المؤمنين كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك ؟ قال : بل كتاب الله بم ذلك ؟ قالت : إنك نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء ، والله يقول في كتابه :
وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . فقال
عمر كل أحد أفقه من
عمر . وفي رواية قال : امرأة أصابت وأمير أخطأ والله المستعان . ثم رجع إلى المنبر فقال : إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صدقات النساء فليفعل كل رجل في ماله ما شاء . والظاهر من هذه الرواية أن
عمر رجع عن تحجير المباح لأنه رآه ينافي الإباحة بمقتضى دلالة الإشارة وقد كان بدا له من قبل أن في المغالاة علة تقتضي المنع ، فيمكن أن يكون نسي الآية بناء على أن المجتهد لا يلزمه البحث عن المعارض لدليل اجتهاده ، أو أن يكون حملها على قصد المبالغة فرأى أن ذلك لا يدل على الإباحة ، ثم رجع عن ذلك ، أو أن يكون رأى لنفسه أن يحجر بعض المباح للمصلحة ثم عدل عنه لأنه ينافي إذن الشرع في فعله أو نحو ذلك .
وضمير ( إحداهن ) راجع إلى النساء . وهذه هي المرأة التي يراد طلاقها .
وتقدم الكلام على القنطار عند تفسير قوله تعالى : والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة . في سورة آل عمران .
والاستفهام في ( أتأخذونه ) إنكاري .
والبهتان مصدر كالشكران والغفران ، مصدر بهته كمنعه إذا قال عليه ما لم يفعل . وتقدم البهت عند قوله تعالى : فبهت الذي كفر . في سورة البقرة .
وانتصب ( بهتانا ) على الحال من الفاعل في ( تأخذونه ) بتأويله باسم الفاعل ، أي مباهتين . وإنما جعل هذا الأخذ بهتانا لأنهم كان من عادتهم إذا كرهوا المرأة ، وأرادوا طلاقها ، رموها بسوء المعاشرة ، واختلقوا عليها ما ليس فيها ، لكي تخشى
[ ص: 290 ] سوء السمعة فتبذل للزوج مالا فداء ليطلقها ، حكى ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=16785فخر الدين الرازي ، فصار أخذ المال من المرأة عند الطلاق مظنة بأنها أتت ما لا يرضي الزوج ، فقد يصد ذلك الراغبين في التزوج عن خطبتها ، ولذلك لما أذن الله للأزواج بأخذ المال إذا أتت أزواجهم بفاحشة ، صار أخذ المال منهن بدون ذلك يوهم أنه أخذه في محل الإذن بأخذه ، هذا أظهر الوجوه في جعل الأخذ بهتانا .
وأما كونه إثما مبينا فقد جعل هنا حالا بعد الإنكار ، وشأن مثل هذا الحال أن تكون معلومة الانتساب إلى صاحبها حتى يصبح الإنكار باعتبارها ، فيحتمل أن كونها إثما مبينا قد صار معلوما للمخاطبين من قوله : فلا تأخذوا منه شيئا ، أو من آية البقرة : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله . أو مما تقرر عندهم من أن حكم الشريعة في الأموال أن لا تحل إلا عن طيب نفس .
وقوله ( وكيف تأخذونه ) استفهام تعجبي بعد الإنكار ، أي ليس من المروءة أن تطمعوا في أخذ عوض عن الفراق بعد معاشرة امتزاج وعهد متين . والإفضاء : الوصول ، مشتق من الفضاء ، لأن في الوصول قطع الفضاء بين المتواصلين والميثاق الغليظ : عقدة النكاح على نية إخلاص النية ودوام الألفة ، والمعنى أنكم كنتم على حال مودة وموالاة ، فهي في المعنى كالميثاق على حسن المعاملة .
والغليظ صفة مشبهة من غلظ بضم اللام : إذا صلب ، والغلظة في الحقيقة صلابة الذوات ، ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدتها في أنواعها ، قال تعالى :
قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة . وقد ظهر أن مناط التحريم هو أخذ المال عند طلب استبدال الزوجة بأخرى ، فليس هذا الحكم منسوخا بآية البقرة خلافا
nindex.php?page=showalam&ids=11867لجابر بن زيد إذ لا إبطال لمدلول هذا الآية .