وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا .
عطف على جملة
واللاتي تخافون نشوزهن وهذا حكم أحوال أخرى تعرض بين الزوجين ، وهي أحوال الشقاق من مخاصمة ومغاضبة وعصيان ، ونحو ذلك من أسباب الشقاق ، أي دون نشوز من المرأة .
[ ص: 45 ] والمخاطب هنا ولاة الأمور لا محالة ، وذلك يرجح أن يكونوا هم المخاطبين في الآية التي قبلها .
والشقاق مصدر كالمشاقة ، وهو مشتق من الشق بكسر الشين أي الناحية . لأن كل واحد يصير في ناحية ، على طريقة التخييل ، كما قالوا في اشتقاق العدو : إنه مشتق من عدوة الوادي . وعندي أنه مشتق من الشق بفتح الشين وهو الصدع والتفرع ، ومنه قولهم : شق عصا الطاعة ، والخلاف شقاق . وتقدم في سورة البقرة عند قوله تعالى :
وإن تولوا فإنما هم في شقاق وأضاف الشقاق إلى ( بين ) . إما لإخراج لفظ ( بين ) عن الظرفية إلى معنى البعد الذي يتباعده الشيئان ، أي شقاق تباعد ، أي تجاف ; وإما على وجه التوسع ، كقوله :
بل مكر الليل وقول الشاعر :
يا سارق الليلة أهل الدار
ومن يقول بوقوع الإضافة على تقدير " في " يجعل هذا شاهدا له كقوله " هذا فراق بيني وبينك " ، والعرب يتوسعون في هذا الظرف كثيرا ، وفي القرآن من ذلك شيء كثير ، ومنه قوله :
لقد تقطع بينكم في قراءة الرفع .
وضمير ( بينهما ) عائد إلى الزوجين المفهومين من سياق الكلام ابتداء من قوله :
الرجال قوامون على النساء .
والحكم بفتحتين الحاكم الذي يرضى للحكومة بغير ولاية سابقة ، وهو صفة مشبهة مشتقة من قولهم : حكموه فحكم ، وهو اسم قديم في العربية ، وكانوا لا ينصبون القضاة ، ولا يتحاكمون إلا إلى السيف ، ولكنهم قد يرضون بأحد عقلائهم يجعلونه حكما في بعض حوادثهم ، وقد تحاكم
عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة لدى
هرم بن سنان العبسي ، وهي المحاكمة التي ذكرها
الأعشى في قصيدته الرائية القائل فيها :
علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار والواتر
وتحاكم أبناء نزار بن معد بن عدنان إلى الأفعى الجرهمي ، كما تقدم في هذه السورة .
[ ص: 46 ] والضميران في قوله " من أهله " و " من أهلها " عائدان على مفهومين من الكلام : وهما الزوج والزوجة ، واشترط في الحكمين أن يكون أحدهما من أهل الرجل والآخر من أهل المرأة ليكونا أعلم بدخلية أمرهما وأبصر في شأن ما يرجى من حالهما ، ومعلوم أنه يشترط فيهما الصفات التي تخولهما الحكم في الخلاف بين الزوجين . قال مالك : إذا تعذر وجود حكمين من أهلهما فيبعث من الأجانب ، قال
ابن الفرس : فإذا بعث الحاكم أجنبيين مع وجود الأهل فيشبه أن يقال ينتقض الحكم لمخالفة النص ، ويشبه أن يقال ماض بمنزلة ما لو تحاكموا إليهما . قلت : والوجه الأول أظهر . وعند الشافعية كونهما من أهلهما مستحب فلو بعثا من الأجانب مع وجود الأقارب صح .
والآية دالة على وجوب
بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاع المستمر المعبر عنه بالشقاق ، وظاهرها أن الباعث هو الحاكم وولي الأمر ، لا الزوجان ، لأن فعل ( ابعثوا ) مؤذن بتوجيههما إلى الزوجين ، فلو كانا معينين من الزوجين لما كان لفعل البعث معنى . وصريح الآية : أن المبعوثين حكمان لا وكيلان ، وبذلك قال أيمة العلماء من الصحابة والتابعين ، وقضى به
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ،
nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان بن عفان ،
nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب ، وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
ومالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
وإسحاق ، وعلى قول جمهور العلماء فما قضى به الحكمان من فرقة أو بقاء أو مخالعة يمضي ، ولا مقال للزوجين في ذلك لأن ذلك معنى التحكيم ، نعم لا يمنع هؤلاء من أن يوكل الزوجان رجلين على النظر في شؤونهما ، ولا من أن يحكما حكمين على نحو تحكيم القاضي . وخالف في ذلك
ربيعة فقال : لا يحكم إلا القاضي دون الزوجين ، وفي كيفية حكمهما وشروطه تفصيل في كتب الفقه .
وتأولت طائفة قليلة هذه الآية على أن المقصود بعث حكمين للإصلاح بين الزوجين وتعيين وسائل الزجر للظالم منهما ، كقطع النفقة عن المرأة مدة حتى يصلح حالها ، وأنه
ليس للحكمين التطليق إلا برضا الزوجين ، فيصيران وكيلين ، وبذلك قال
أبو حنيفة ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي ، فيريد أنهما بمنزلة الوكيل الذي يقيمه القاضي عن الغائب . وهذا صرف للفظ الحكمين عن ظاهره ، فهو من التأويل ، والباعث على تأويله عند أبي حنيفة : أن الأصل أن التطليق بيد الزوج ، فلو رأى الحكمان التطليق عليه وهو كاره كان ذلك
[ ص: 47 ] مخالفة لدليل الأصل فاقتضى تأويل معنى الحكمين ، وهذا تأويل بعيد ، لأن التطليق لا يطرد كونه بيد الزوج ، فإن القاضي يطلق عند وجود سبب يقتضيه .
وقوله تعالى :
إن يريدا إصلاحا الظاهر أنه عائد إلى الحكمين لأنهما المسوق لهما الكلام ، واقتصر على إرادة الإصلاح لأنها التي يجب أن تكون المقصد لولاة الأمور والحكمين ، فواجب الحكمين أن ينظرا في أمر الزوجين نظرا منبعثا عن نية الإصلاح ، فإن تيسر الإصلاح فذلك ، وإلا صارا إلى التفريق ، وقد وعدهما الله بأن يوفق بينهما إذا نويا الإصلاح ، ومعنى التوفيق بينهما إرشادهما إلى مصادفة الحق والواقع ، فإن الاتفاق أطمن لهما في حكمهما بخلاف الاختلاف ، وليس في الآية ما يدل على أن الله قصر الحكمين على إرادة الإصلاح حتى يكون سندا لتأويل أبي حنيفة أن الحكمين رسولان للإصلاح لا للتفريق ، لأن الله تعالى ما زاد على أن أخبر بأن نية الإصلاح تكون سببا في التوفيق بينهما في حكمهما ، ولو فهم أحد غير هذا المعنى لكان متطوحا عن مفاد التركيب .
وقيل : الضمير عائد على الزوجين ، وهذا تأويل من قالوا : إن الحكمين يبعثهما الزوجان وكيلين عنهما ، أي إن يرد الزوجان من بعث الحكمين إصلاح أمرهما يوفق الله بينهما ، بمعنى تيسير عود معاشرتهما إلى أحسن حالها . وليس فيها على هذا التأويل أيضا حجة على قصر الحكمين على السعي في الجمع بين الزوجين دون التفريق : لأن الشرط لم يدل إلا على أن إرادة الزوجين الإصلاح تحققه ، وإرادتهما الشقاق والشغب تزيدهما ، وأين هذا من تعيين خطة الحكمين في نظر الشرع .
وهذه الآية أصل في جواز التحكيم في سائر الحقوق ، ومسألة التحكيم مذكورة في الفقه .