يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .
هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلقان بالصلاة ، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ ، وإلى قرنه بحكم مقرر يتعلق بالصلاة أيضا ، ويظهر أن سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها ، فوقعت في موقع وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات . تضمنت حكما أول يتعلق بالصلاة ابتداء ، وهو مقصود في ذاته أيضا بحسب الغاية ، وهو قوله :
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . وذلك أن الخمر كانت حلالا لم يحرمها الله تعالى ، فبقيت على الإباحة الأصلية ، وفي المسلمين من يشربها . ونزل قوله تعالى :
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس في أول مدة الهجرة . فقال فريق من المسلمين : نحن نشربها لمنافعها لا لإثمها ، وقد علموا أن المراد من الإثم الحرج والمضرة والمفسدة ، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأن الخمر يوشك أن تكون حراما لأن ما يشتمل على الإثم متصف بوصف مناسب للتحريم ، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم ، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها ، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه
الترمذي عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب قال : صنع لنا
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا خمرا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله تعالى
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . قال
أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
[ ص: 61 ] والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبس بالفعل ، لأن ( قرب ) حقيقة في الدنو من المكان أو الذات . يقال : قرب منه بضم الراء وقربه بكسر الراء وهما بمعنى ، ومن الناس من زعم أن مكسور الراء للقرب المجازي خاصة ، ولا يصح .
وإنما اختير هذا الفعل دون ( لا تصلوا ) ونحوه ؛ للإشارة إلى أن تلك حالة منافية للصلاة ، وصاحبها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام ، ومن هنا كانت مؤذنة بتغير شأن الخمر والتنفير منها ، لأن المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيمانا وأعلقهم بالصلاة ، فلا يرمقون شيئا يمنعهم من الصلاة إلا بعين الاحتقار . ومن المفسرين من تأول الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحال على المحل كما في قوله تعالى :
وصلوات ومساجد ، ونقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ، والحسن قالوا : كان جماعة من الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك . ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار .
وقوله :
حتى تعلموا ما تقولون غاية للنهي وإيماء إلى علته ، واكتفى بقوله " تقولون " عن تفعلون ; لظهور أن ذلك الحد من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة ، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول . وفي الآية إيذان بأن السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ ; أو أريد من الغاية أنها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة . وسكارى جمع سكران ، والسكران من أخذ عقله في الانغلاق ، مشتق من السكر ، وهو الغلق ، ومنه سكر الحوض وسكر الباب و
سكرت أبصارنا .
ولما نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلا بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما ، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة .