ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا .
استئناف كلام راجع إلى مهيع الآيات التي سبقت من قوله :
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا فإنه بعد نذارة المشركين وجه الإنذار لأهل الكتاب ، ووقعت آيات تحريم الخمر وقت الصلاة ، وآيات مشروعية الطهارة لها فيما بينهما ، وفيه مناسبة للأمر بترك الخمر في أوقات الصلوات والأمر بالطهارة ، لأن ذلك من الهدى الذي لم يسبق
لليهود نظيره ، فهم يحسدون المسلمين عليه ، لأنهم حرموا من مثله وفرطوا في هدى عظيم ، وأرادوا إضلال المسلمين عداء منهم .
وجملة ( ألم تر ) إلى ( الكتاب ) جملة يقصد منها التعجيب ، والاستفهام فيها تقريري عن نفي فعل لا يود المخاطب انتفاءه عنه ، ليكون ذلك محرضا على الإقرار بأنه فعل ، وهو مفيد مع ذلك للتعجيب ، وتقدم نظيرها في قوله تعالى :
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في سورة آل عمران .
وجملة ( يشترون ) حالية فهي قيد لجملة " ألم تر " وحالة اشترائهم الضلالة وإن كانت غير مشاهدة بالبصر فقد نزلت منزلة المشاهد المرئي ، لأن شهرة الشيء وتحققه تجعله بمنزلة المرئي .
والنصيب تقدم عند قوله :
للرجال نصيب في هذه السورة ، وفي اختياره هنا إلقاء احتمال قلته في نفوس السامعين ، وإلا لقيل : أوتوا الكتاب ، وهذا نظير قوله تعالى بعد
[ ص: 72 ] هذا
فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ، أي نصيب من الفتح أو من النصر .
والمراد بالكتاب التوراة ، لأن
اليهود هم الذين كانوا مختلطين مع المسلمين
بالمدينة ، ولم يكن فيها أحد من
النصارى .
والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء ، لأن المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبائعين ، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه ، هكذا اعتبر أهل العرف الذي بنيت عليه اللغة وإلا فإن كلا المتبايعين مشتر وشار ، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازا على الاختيار ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى :
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى في سورة البقرة . وهذا يدل على أنهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلة جدوى علمهم عليهم .
وقوله :
ويريدون أن تضلوا السبيل أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء ، كقوله :
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق . فالإرادة هنا بمعنى المحبة كقوله تعالى :
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم . ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل ، أي يسعون لأن تضلوا ، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان ، وقد تقدم آنفا قوله تعالى :
ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما .
وجملة
والله أعلم بأعدائكم معترضة ، وهي تعريض ، فإن إرادتهم الضلالة للمؤمنين عن عداوة وحسد .
وجملة
وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا تذييل لتطمئن نفوس المؤمنين بنصر الله ، لأن الإخبار عن
اليهود بأنهم يريدون ضلال المسلمين ، وأنهم أعداء للمسلمين ، من شأنه أن يلقي الروع في قلوب المسلمين ، إذ كان
اليهود المجاورون للمسلمين ذوي عدد وعدد ، وبيدهم الأموال ، وهم مبثوثون في
المدينة وما حولها : من
قينقاع [ ص: 73 ] وقريظة والنضير وخيبر ، فعداوتهم ، وسوء نواياهم ، ليسا بالأمر الذي يستهان به ، فكان قوله :
وكفى بالله وليا مناسبا لقوله :
ويريدون أن تضلوا السبيل ، أي إذا كانوا مضمرين لكم السوء فالله وليكم يهديكم ويتولى أموركم ؛ شأن الولي مع مولاه ، وكان قوله :
وكفى بالله نصيرا مناسبا لقوله (
بأعدائكم ) أي فالله ينصركم .
وفعل ( كفى ) في قوله :
وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا مستعمل في تقوية اتصاف فاعله بوصف يدل عليه التمييز المذكور بعده ، أي أن فاعل ( كفى ) أجدر من يتصف بذلك الوصف ، ولأجل الدلالة على هذا غلب في الكلام إدخال باء على فاعل فعل ( كفى ) وهي باء زائدة لتوكيد الكفاية ، بحيث يحصل إبهام يشوق السامع إلى معرفة تفصيله ، فيأتون باسم يميز نوع تلك النسبة ليتمكن المعنى في ذهن السامع .
وقد يجيء فاعل ( كفى ) غير مجرور بالباء ، كقول
عبد بني الحسحاس :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وجعل
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج الباء هنا غير زائدة وقال : ضمن فعل ( كفى ) معنى ( اكتف ) ، واستحسنه
ابن هشام .
وشذت زيادة الباء في المفعول ، كقول
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك أو
nindex.php?page=showalam&ids=144حسان بن ثابت :
فكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبيء محمد إيانا
وجزم
الواحدي في شرح قول
nindex.php?page=showalam&ids=15155المتنبي :
كفى بجسمي نحولا أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني
بأنه شذوذ .
لا تزاد الباء في فاعل " كفى " بمعنى أجزأ ، ولا التي بمعنى وقى ، فرقا بين استعمال كفى المجازي واستعمالها الحقيقي الذي هو معنى الاكتفاء بذات الشيء نحو :
كفاني ولم أطلب قليل من المال .