وقوله : فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم مفرع على استوقد . ولما : حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره ، فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها ، وذلك معنى قولهم : حرف وجود لوجود ؛ أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان من ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان من ترتب المقارن على مقارنة المهيأ ، والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة ، وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن .
مثال ترتب المعلول على العلة : " لما تعفنت أخلاطه حم " ، والمسبب على السبب
[ ص: 308 ] ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقول
عمرو بن معدي كرب :
لما رأيت نساءنا يفحصن بالمعزاء شدا نازلت كبشهم ولم
أر من نزال الكبش بدا
ومثال المقارن المهيأ قول
امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت علي هضيم الكشح ريا المخلخل
ومثال المقارن الحاصل اتفاقا
لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما ، وقوله
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه فمن ظن أن " لما " تؤذن بالسببية اغترارا بقولهم : وجود لوجود - حملا للام في عبارتهم على التعليل - فقد ارتكب شططا ولم يجد من كلام الأئمة فرطا . و " أضاء " يجيء متعديا وهو الأصل لأن مجرده : ضاء فتكون حينئذ همزته للتعدية كقول
أبي الطمحان القيني :
أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم دجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه
ويجيء قاصرا بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول
امرئ القيس يصف البرق :
يضيء سناه أو مصابيح راهب أمال السليط بالذبال المفتل
والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها ، فيكون ما حوله موصولا مفعولا لأضاءت وهو المتبادر .
وتحتمل أن تكون من " أضاء القاصر " أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوءها في نفسها ، ويكون ما حوله على هذا ظرفا للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها . وحوله ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن
ما حوله يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصا إلا بعناء .
وجمع الضمير في قوله
بنورهم مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله
ما حوله مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها ; وهي حال المستوقد الواحد على وجه
[ ص: 309 ] بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم ، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى الذي ، قريبا من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول
طرفة :
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
وهذا رجوع بديع ، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي
والله محيط بالكافرين وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعا واحدا في المشبه والمشبه به ، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه . وهذا يقتضي أن تكون جملة
ذهب الله بنورهم جواب ( لما ) فيكون جمع ضمائر
بنورهم وتركهم إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه ، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضا عن النار المبتدأ به ، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين ، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل : فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو
من أساليب الإعجاز . وقريب منه قوله تعالى
بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فقوله أرسلتم حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال
محمد صلى الله عليه وسلم قومه بقوله
أولو جئتكم وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقا لما في الآية بعدها من قوله تعالى
يجعلون أصابعهم في آذانهم إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه . وجوز صاحب الكشاف أن يكون قوله
ذهب الله بنورهم استئنافا ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى
فلما أضاءت ما حوله ويكون جواب لما محذوفا دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف .
ومعنى
ذهب الله بنورهم : أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد ، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفئ ، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله
ويمدهم في طغيانهم [ ص: 310 ] وذهب المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع ؛ لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله
فلما ذهبوا به وأذهبه جعله ذاهبا بأمره أو إرساله ، فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهابا لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ( ذهب به ) مفيدا معنى أذهبه ، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ، ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله
يأتي بالشمس من المشرق وقوله
وجاء بكم من البدو ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون : ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه . ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه . وضمير المفرد في قوله وما حوله مراعاة للحال المشبهة .
واختيار لفظ النور في قوله
ذهب الله بنورهم دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب ; لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها ، وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة ، وعبر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله بنورهم