صم بكم عمي فهم لا يرجعون
أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير
مثلهم ولا يصح أن يكون عائدا على ( الذي استوقد ) لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخره لأن قوله
كمثل الذي استوقد نارا يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لما تأتى منه الاستيقاد ، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفا بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عرف للسامع فيقولون : فلان أو فتى أو رجل أو نحو ذلك على تقدير : هو فلان . ومنه قوله تعالى
جزاء من ربك عطاء حسابا رب السماوات والأرض وما بينهما التقدير هو رب السماوات ، عدل عن جعل " رب " بدلا من " ربك " ، وقول
الحماسي :
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
وسمى
السكاكي هذا الحذف " الحذف الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه " .
والإخبار عنهم بهذه الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ ؛ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم البكم العمي أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث وذلك شأن الأخبار الواردة بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع ، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم
[ ص: 314 ] الأعمى وليس المعنى على التوزيع ، فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم كالأعمى ، وليس هو من الاستعارة عند محققي أهل البيان .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه ، والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون . اهـ أي لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة ، فمتى ذكرا معا فهو تشبيه ، ولا يضر ذكر لفظ المستعار له في غير جملة الاستعارة لظهور أنه لولا العلم بالمستعار له في الكلام لما ظهرت الاستعارة ، ولذلك اتفقوا على أن قول
nindex.php?page=showalam&ids=12826ابن العميد :
قامت تظللني من الشمس نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني ومن عجب شمس تظللني من الشمس
أن قوله : " شمس " استعارة ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل في قوله : نفس أعز ، وضميرها في قوله : قامت تظللني ، وكذا إذا كان لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعا من الاستعارة كقول
أبي الحسن ابن طباطبا :
لا تعجبوا من بلي غلالته قد زر أزراره على القمر
فإن الضمير لم يذكر ليبنى عليه التشبيه ، بل جاء التشبيه عقبه .
والصم والبكم والعمي جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمى . فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعا ، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق ، والعمى انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار .
وقوله
فهم لا يرجعون تفريع على جملة
صم بكم عمي لأن من اعتراه هذه الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب .
والرجوع الانصراف من مكان حلول ثان إلى مكان حلول أول وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر .