فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا .
تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدمت ، لأن ما وصف من أحوالهم لا يترك شكا عند المؤمنين في خبث طويتهم وكفرهم ، أو هو تفريع عن قوله ومن أصدق من الله حديثا . وإذ قد حدث الله عنهم بما وصف من سابق الآي ، فلا يحق التردد في سوء نواياهم وكفرهم ، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله
فقاتل في سبيل الله في سورة النساء .
[ ص: 149 ] والاستفهام للتعجيب واللوم . والتعريف في المنافقين للعهد . و " فئتين " حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله ، الذي هو التوبيخ ، فعلم أن محل التوبيخ هو الانقسام . و " في المنافقين " متعلق بفئتين لتأويله بمعنى : منقسمين ، ومعناه : في شأن المنافقين ، لأن الحكم لا يتعلق بذوات المنافقين .
والفئة : الطائفة . وزنها فلة ، مشتقة من الفيء وهو الرجوع ، لأنهم يرجع بعضهم إلى بعض في شئونهم . وأصلها فيء ، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوضوا عنها الهاء .
وقد علم أن الانقسام إلى فئتين ما هو إلا انقسام في حالة من حالتين ، والمقام للكلام في الإيمان والكفر ، أي فما لكم بين مكفر لهم ومبرر; وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم . قيل : نزلت هذه الآية في
المنخذلين يوم أحد :
عبد الله بن أبي وأتباعه ، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك .
وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت قال : رجع ناس من أصحاب النبيء من أحد ، وكان الناس فيهم فريقين ، فريق يقول : اقتلهم ، وفريق يقول : لا ، فنزلت
فما لكم في المنافقين فئتين .
وقال إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة أي ولم يقتلهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - جريا على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام . فتكون الآية لبيان أنه ما كان ينبغي التردد في أمرهم .
وعن
مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل
مكة أظهروا الإيمان ، وهاجروا إلى
المدينة ، ثم استأذنوا في الرجوع إلى
مكة ، ليأتوا ببضاعة يتجرون فيها ، وزعموا أنهم لم يزالوا مؤمنين ، فاختلف المسلمون في شأنهم : أهم مشركون أم مسلمون .
ويبينه ما روي
عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين ، ليكونوا في أمن من تعرض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها ، وأنه قد بلغ المسلمين أنهم خرجوا من مكة في تجارة ، فقال فريق من المسلمين : نركب إليهم فنقاتلهم ، وقال فريق : كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام ، فاختلف المسلمون في ذلك ، ولم يغير رسول الله على أحد من الفريقين حتى نزلت الآية .
[ ص: 150 ] وعن
الضحاك : نزلت في قوم أظهروا الإسلام
بمكة ولم يهاجروا ، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم الآية .
وأحسب أن هؤلاء الفرق كلهم كانوا معروفين وقت نزول الآية ، فكانوا مثلا لعمومها وهي عامة فيهم وفي غيرهم من كل من عرف بالنفاق يومئذ من أهل
المدينة ومن أهل
مكة .
والظاهر أن الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم ، لقصد عدم التعرض لهم وقت خروجهم ، استدراجا لهم إلى يوم فتح
مكة .
وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المخطئين لأن دلائل كفر المتحدث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرد النطق بكلمة الإسلام ، مع التجرد عن إظهار موالاة المسلمين .
وهذه الآية دليل على أن
المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدل به العالم لا يكون بعيدا عن الملام في الدنيا ، على أن أخطأ فيما لا يخطئ أهل العلم في مثله .
وجملة والله أركسهم بما كسبوا حالية ، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردهم إلى حالهم السوأى ، لأن معنى أركس رد إلى الركس ، والركس قريب من الرجس .
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341559وفي حديث الصحيح في الروث إن هذا ركس وقيل : معنى أركس نكس ، أي رد ردا شنيعا ، وهو مقارب للأول . وقد جعل الله ردهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلة إخلاصهم مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الأعمال تتوالد من جنسها ، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات ، والعمل السيئ يأتي بمنتهى المعاصي ، ولهذا تكرر في القرآن الإخبار عن كون العمل سببا في بلوغ الغايات من جنسه .
وقوله
أتريدون أن تهدوا من أضل الله استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله
فما لكم في المنافقين فئتين ، لأن السامعين يترقبون بيان وجه اللوم ، ويتساءلون عماذا يتخذون نحو هؤلاء المنافقين .
وقد دل الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محل الاستئناف البياني ، وتقديرها : إنهم قد أضلهم الله ،
أتريدون أن تهدوا من أضل الله ، بناء على أن قوله
والله أركسهم ليس المراد منه أنه
[ ص: 151 ] أضلهم ، بل المراد منه أساء حالهم ، وسوء الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان ، فيكون فصل الجملة فصل الاستئناف .
وإن جعلت معنى
والله أركسهم أنه ردهم إلى الكفر ، كانت جملة أتريدون استئنافا ابتدائيا ، ووجه الفصل أنه إقبال على اللوم والإنكار ، بعد جملة
والله أركسهم التي هي خبرية ، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين .