ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما .
اعتراض بتذييل بين جملة
ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم وبين جملة
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك .
وعمل السوء هو العصيان ومخالفة ما أمر به الشرع ونهى عنه . وظلم النفس شاع إطلاقه في القرآن على الشرك والكفر ، وأطلق أيضا على ارتكاب المعاصي . وأحسن
[ ص: 196 ] ما قيل في تفسير هذه الآية : أن عمل السوء أريد به عمل السوء مع الناس ، وهو الاعتداء على حقوقهم ، وأن ظلم النفس هو المعاصي الراجعة إلى مخالفة المرء في أحواله الخاصة ما أمر به أو نهي عنه .
والمراد بالاستغفار التوبة وطلب العفو من الله عما مضى من الذنوب قبل التوبة ، ومعنى
يجد الله غفورا رحيما يتحقق ذلك ، فاستعير فعل يجد للتحقق لأن فعل وجد حقيقته الظفر بالشيء ومشاهدته ، فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة . ومعنى غفورا رحيما شديد الغفران وشديد الرحمة وذلك كناية عن العموم والتعجيل ، فيصير المعنى : يجد الله غافرا له راحما له ، لأنه عام المغفرة والرحمة فلا يخرج منها أحد استغفره وتاب إليه ، ولا يتخلف عنه
شمول مغفرته ورحمته زمنا ، فكانت صيغة غفورا رحيما مع يجد دالة على القبول من كل تائب بفضل الله .
وذكر الخطيئة والإثم هنا يدل على أنهما متغايران ، فالمراد بالخطيئة المعصية الصغيرة ، والمراد بالإثم الكبيرة .
والرمي حقيقته قذف شيء من اليد ، ويطلق مجازا على نسبة خبر أو وصف لصاحبه بالحق أو الباطل ، وأكثر استعماله في نسبة غير الواقع ، ومن أمثالهم رمتني بدائها وانسلت وقال تعالى والذين يرمون المحصنات وكذلك هو هنا ، ومثله في ذلك القذف حقيقة ومجازا .
ومعنى يرم به بريئا ينسبه إليه ويحتال لترويج ذلك ، فكأنه ينزع ذلك الإثم عن نفسه ويرمي به البريء . والبهتان : الكذب الفاحش . وجعل الرمي بالخطيئة وبالإثم مرتبة واحدة في كون ذلك إثما مبينا : لأن
رمي البريء بالجريمة في ذاته كبيرة لما فيه من الاعتداء على حق الغير . ودل على عظم هذا البهتان بقوله احتمل تمثيلا لحال فاعله بحال عناء الحامل ثقلا . والمبين الذي يدل كل أحد على أنه إثم ، أي إثما ظاهرا لا شبهة في كونه إثما .
وقوله
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك عطف على ولا تكن للخائنين خصيما .
[ ص: 197 ] والمراد بالفضل والرحمة هنا نعمة إنزال الكتاب تفصيلا لوجوه الحق في الحكم وعصمته من الوقوع في الخطأ فيه . وظاهر الآية أن هم طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يضلوا الرسول غير واقع من أصله فضلا عن أن يضلوه بالفعل .
ومعنى ذلك أن علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس ، مؤمنهم وكافرهم ، أن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - أمين فلا يسعهم إلا حكاية الصدق عنده ، وأن
بني ظفر لما اشتكوا إليه من صنيع
nindex.php?page=showalam&ids=361قتادة بن النعمان وعمه كانوا يظنون أن أصحابهم
بني أبيرق على الحق ، أو أن
بني أبيرق لما شكوا إلى رسول الله بما صنعه
قتادة كانوا موجسين خيفة أن يطلع الله ورسوله على جلية الأمر ، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعا لا هما ، لأن الهم هو العزم على الفعل والثقة به ، وإنما كان انتفاء همهم تضليله فضلا ورحمة ، لدلالته على وقاره في نفوس الناس ، وذلك فضل عظيم .
وقيل في تفسير هذا الانتفاء : إن المراد انتفاء أثره ، أي لولا فضل الله لضللت بهمهم أن يضلوك ، ولكن الله عصمك عن الضلال ، فيكون كناية . وفي هذا التفسير بعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى .
ومعنى وما يضلون إلا أنفسهم أنهم لو هموا بذلك لكان الضلال لاحقا بهم دونك ، أي يكونون قد حاولوا ترويج الباطل واستغفال الرسول ، فحق عليهم الضلال بذلك ، ثم لا يجدونك مصغيا لضلالهم . و من زائدة لتأكيد النفي . و شيء أصله النصب على أنه مفعول مطلق لقوله يضرونك أي شيئا من الضر ، وجر لأجل حرف الجر الزائد .
وجملة وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة عطف على وما يضرونك من شيء . وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله ولولا فضل الله عليك ورحمته ولذلك ختمها بقوله وكان فضل الله عليك عظيما ، فهو مثل رد العجز على الصدر . و الكتاب : القرآن . و الحكمة : النبوءة . وتعليمه ما لم يكن يعلم هو ما زاد على ما في الكتاب من العلم الوارد في السنة والإنباء بالمغيبات .