يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما .
بعد استفراغ الحوار مع أهل الكتاب ، ثم خطاب أهل الكفر بما هو صالح لأن يكون شاملا لأهل الكتاب ، وجه الخطاب إلى الناس جميعا ;
[ ص: 49 ] ليكون تذييلا وتأكيدا لما سبقه ، إذ قد تهيأ من القوارع السالفة ما قامت به الحجة ، واتسعت المحجة ، فكان المقام
للأمر باتباع الرسول والإيمان . وكذلك شأن الخطيب إذا تهيأت الأسماع ، ولانت الطباع . ويسمى هذا بالمقصد من الخطاب ، وما يتقدمه بالمقدمة . على أن الخطاب بـ ( يا أيها الناس ) يعني خصوص المشركين في الغالب ، وهو المناسب لقوله (
فآمنوا خيرا لكم ) .
والتعريف في ( الرسول ) للعهد ، وهو المعهود بين ظهرانيهم . و ( الحق ) هو الشريعة والقرآن ، و ( من ربكم ) متعلق بـ ( جاءكم ) ، أو صفة للحق ، و ( من ) للابتداء المجازي فيهما ، وتعدية ( جاء ) إلى ضمير المخاطبين ترغيب لهم في الإيمان لأن الذي يجيء مهتما بناس يكون حقا عليهم أن يتبعوه ، وأيضا في طريق الإضافة من قوله ( ربكم ) ترغيب ثان لما تدل عليه من اختصاصهم بهذا الدين الذي هو آت من ربهم ، فلذلك أتي بالأمر بالإيمان مفرعا على هاته الجمل بقوله (
فآمنوا خيرا لكم ) .
وانتصب ( خيرا ) على تعلقه بمحذوف لازم الحذف في كلامهم لكثرة الاستعمال ، فجرى مجرى الأمثال ، وذلك فيما دل على الأمر والنهي من الكلام نحو (
انتهوا خيرا لكم ) ، ووراءك أوسع لك ، أي تأخر ، وحسبك خيرا لك ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=16674عمر بن أبي ربيعة :
فواعديه سرحتي مالك أو الربى بينهما . أسهلا
فنصبه مما لم يختلف فيه عن العرب ، واتفق عليه أئمة النحو ، وإنما اختلفوا في المحذوف : فجعله
الخليل nindex.php?page=showalam&ids=16076وسيبويه فعلا أمرا مدلولا عليه من سياق الكلام ، تقديره : ايت أو اقصد ، قالا : لأنك لما قلت له : انته ، أو افعل ، أو حسبك ، فأنت تحمله على شيء آخر أفضل له . وقال
الفراء من الكوفيين : هو في مثله صفة مصدر محذوف ، وهو لا يتأتى فيما كان منتصبا بعد نهي ، ولا فيما كان منتصبا بعد غير متصرف ، نحو : وراءك وحسبك . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي والكوفيون : نصب بكان محذوفة مع خبرها ، والتقدير : يكن خيرا . وعندي : أنه منصوب على
[ ص: 50 ] الحال من المصدر الذي تضمنه الفعل ، وحده ، أو مع حرف النهي ، والتقدير : فآمنوا حال كون الإيمان خيرا ، وحسبك حال كون الاكتفاء خيرا ، ولا تفعل كذا حال كون الانتهاء خيرا . وعود الحال إلى مصدر الفعل في مثله كعود الضمير إليه في قوله
اعدلوا هو أقرب للتقوى ، لا سيما وقد جرى هذا مجرى الأمثال ، وشأن الأمثال قوة الإيجاز . وقد قال بذلك بعض الكوفيين
وأبو البقاء .
وقوله ( وإن تكفروا ) أريد به أن تبقوا على كفركم .
وقوله
فإن لله ما في السماوات والأرض هو دليل على جواب الشرط ، والجواب محذوف لأن التقدير : إن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم لأن لله ما في السماوات وما في الأرض ، وصرح بما حذف هنا في سورة الزمر في قوله تعالى
إن تكفروا فإن الله غني عنكم وفيه تعريض بالمخاطبين ، أي إن كفركم لا يفلتكم من عقابه ، لأنكم عبيده ، لأن له ما في السماوات وما في الأرض .