يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .
لما ذكرهم بالنعمة عقب ذلك بطلب الشكر للمنعم والطاعة له ، فأقبل على خطابهم بوصف الإيمان الذي هو منبع النعم الحاصلة لهم .
فالجملة استئناف نشأ عن ترقب السامعين بعد تعداد النعم .
وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة النساء ، ولكن آية سورة النساء تقول
كونوا قوامين بالقسط شهداء لله وما هنا بالعكس .
ووجه ذلك أن الآية التي في سورة النساء وردت عقب آيات القضاء في الحقوق المبتدأة بقوله :
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ، ثم تعرضت لقضية
بني أبيرق في قوله :
ولا تكن للخائنين خصيما ، ثم أردفت بأحكام المعاملة بين الرجال والنساء ، فكان الأهم
[ ص: 135 ] فيها أمر العدل فالشهادة ، فلذلك قدم فيها
كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ; فالقسط فيها هو العدل في القضاء ، ولذلك عدي إليه بالباء ، إذ قال
كونوا قوامين بالقسط .
وأما الآية التي نحن بصدد تفسيرها فهي واردة بعد التذكير بميثاق الله ، فكان المقام الأول للحض على القيام لله أي الوفاء له بعهودهم له ، ولذلك عدي قوله : " قوامين " باللام . وإذ كان العهد شهادة أتبع قوله :
قوامين لله بقوله :
شهداء بالقسط ، أي شهداء بالعدل شهادة لا حيف فيها ، وأولى شهادة بذلك شهادتهم لله تعالى .
وقد حصل من مجموع الآيتين
وجوب القيام بالعدل ، والشهادة به ، ووجوب القيام لله ، والشهادة له .
وتقدم القول في معنى
ولا يجرمنكم شنآن قوم قريبا ، ولكنه هنا صرح بحرف ( على ) وقد بيناه هنالك . والكلام على العدل تقدم في قوله :
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .
والضمير في قوله :
هو أقرب عائد إلى العدل المفهوم من تعدلوا ، لأن عود الضمير يكتفى فيه بكل ما يفهم حتى قد يعود على ما لا ذكر له ، نحو
حتى توارت بالحجاب . على أن العرب تجعل الفعل بمعنى المصدر في مراتب : المرتبة الأولى : أن تدخل عليه ( أن ) المصدرية .
الثانية : أن تحذف ( أن ) المصدرية ويبقى النصب بها ، كقول
طرفة :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
بنصب أحضر في رواية ، ودل عليه عطف ( وأن أشهد ) .
[ ص: 136 ] الثالثة : أن تحذف ( أن ) ويرفع الفعل عملا على القرينة ، كما روي بيت
طرفة ( أحضر ) برفع ( أحضر ) ، ومنه قول المثل ( تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ) ، وفي الحديث
تحمل لأخيك الركاب صدقة .
الرابعة : عود الضمير على الفعل مرادا به المصدر ، كما في هذه الآية . وهذه الآية اقتصر عليها النحاة في التمثيل حتى يخيل للناظر أنه مثال فذ في بابه ، وليس كذلك بل منه قوله - تعالى - :
وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا . وأمثلته كثيرة : منها قوله - تعالى - : ما لهم به من علم ، فضمير ( به ) عائد إلى القول المأخوذ من " قالوا " ومنه قوله - تعالى - :
ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه فضمير " فهو " عائد للتعظيم المأخوذ من فعل يعظم ، وقول
بشار :
والله رب محمد ما إن غدرت ولا نويته
أي الغدر .
ومعنى "
أقرب للتقوى " أي للتقوى الكاملة التي لا يشذ معها شيء من الخير ، وذلك أن العدل هو ملاك كبح النفس عن الشهوة وذلك ملاك التقوى .