وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير .
مقال آخر مشترك بينهم وبين
اليهود يدل على غباوتهم في الكفر إذ
[ ص: 156 ] يقولون ما لا يليق بعظمة الله تعالى ، ثم هو مناقض لمقالاتهم الأخرى . عطف على المقال المختص
بالنصارى ، وهو جملة
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح . وقد وقع في التوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله; ففي سفر التثنية أول الفصل الرابع عشر قول
موسى " أنتم أولاد للرب أبيكم " . وأما الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي
المسيح ، وبأبي المؤمنين به ، وتسمية المؤمنين أبناء الله في متى في الإصحاح الثالث " وصوت من السماء قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت " ، وفي الإصحاح الخامس " طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون " . وفي الإصحاح السادس " وأبوكم السماوي يقوتها " . وفي الإصحاح العاشر " لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم " . وكلها جائية على ضرب من التشبيه فتوهمها دهماؤهم حقيقة فاعتقدوا ظاهرها .
وعطف " وأحباؤه " على أبناء الله أنهم قصدوا أنهم أبناء محبوبون إذ قد يكون الابن مغضوبا عليه .
وقد علم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقضين : أولهما من الشريعة ، وهو قوله :
قل فلم يعذبكم بذنوبكم يعني أنهم قائلون بأن نصيبا من العذاب ينالهم بذنوبهم ، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم بذنوبهم ، وشأن المحب أن لا يعذب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذب أبناءه . روي أن
الشبلي سأل
nindex.php?page=showalam&ids=13492أبا بكر بن مجاهد : أين تجد في القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يهتد
ابن مجاهد ، فقال له
الشبلي في قوله :
قل فلم يعذبكم بذنوبكم .
وليس المقصود من هذا أن يرد عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر ، من تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم ، لأن ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للرد به ، إذ يصير الرد مصادرة ، بل المقصود الرد عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم ، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدنيا . فأما
اليهود فكتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة ، كما في قوله تعالى
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . وأما
النصارى فلم أر في الأناجيل ذكرا لعذاب الآخرة إلا أنهم قائلون في عقائدهم بأن بني
[ ص: 157 ] آدم كلهم استحقوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم
آدم ، فجاء
عيسى ابن مريم مخلصا وشافعا وعرض نفسه للصلب ليكفر عن البشر خطيئتهم الموروثة ، وهذا يلزمهم الاعتراف بأن العذاب كان مكتوبا على الجميع لولا كفارة
عيسى فحصل الرد عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا .
ثم أخذت النتيجة من البرهان بقوله :
بل أنتم بشر ممن خلق أي ينالكم ما ينال سائر البشر .
وفي هذا تعريض أيضا بأن
المسيح بشر ، لأنه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف ، وزعموا أنه ناله الصلب والقتل .
وجملة قوله :
يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء كالاحتراس ، لأنه لما رتب على نوال العذاب إياهم أنهم بشر دفع توهم
النصارى أن البشرية مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تبعة خطيئة آدم فقال
يغفر لمن يشاء ، أي من البشر
ويعذب من يشاء .