فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا
الفاء للتعقيب الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله
لا يستحيي لأن تقديره : لا يستحيي من الناس كما تقدم ، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به ، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم . وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال .
و ( أما ) حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر . ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول : إن شئت تفصيله فتفصيله كيت وكيت ، فلذلك كانت ( أما ) متضمنة معنى الشرط ، ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط ، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب : أما بعد فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاما بعد كلامه الأول .
وقدرها
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء ، وتلقفه أهل العربية بعده وهو عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها ، وفي النفس منه شيء
[ ص: 364 ] لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة ، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري توكيدا وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام ، على أن مضمونه محقق ولولا ذلك لما اهتم به ، وبهذا يظهر فضل قوله
فأما الذين آمنوا فيعلمون إلخ على أن يقال : فالذين آمنوا يعلمون بدون ( أما ) والفاء . وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء : مؤمن وكافر ، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك . والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالبا ، وإما ما يشملهم ويشمل
اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية .
وإنما عبر في جانب المؤمنين بـ ( يعلمون ) تعريضا بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عنادا ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز ، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان ، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد ؛ حسدا وعنادا . وضمير أنه عائد إلى المثل . و الحق ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته . و
من ربهم حال من ( الحق ) و ( من ) ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ .
وأصل ماذا كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإشارة ، ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل " ماذا " مشيرا إلى شيء حاضر بمنزلة قوله : ما هذا ، غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركبا من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه معبرا عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد ، نحو ماذا التواني ، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو
وماذا عليهم لو آمنوا بالله ولذلك يقول النحاة : إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب .
وقد يتوسعون فيها توسعا أقوى فيجعلون ذا اسما موصولا وذلك حين يكون المسئول عنه معروفا للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو
ماذا أنزل ربكم وعلى هذين الاحتمالين الآخرين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولا مقدما إذا وقع بعده فعل . والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام
[ ص: 365 ] كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية ، ومثله لا يجاب بشيء غالبا لأنه غير مقصود به الاستعلام . وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى
عم يتساءلون عن النبإ العظيم والإشارة بقوله بهذا مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله
أهذا الذي يذكر آلهتكم وانتصب قوله مثلا على التمييز من ( هذا ) لأنه مبهم فحق له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم ( ربه رجلا ) .