وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء .
عطف على جملة
وإذا جاءوكم قالوا آمنا فإنه لما كان أولئك من
اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام ، وهذا قول
اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم (
اليهود ) .
[ ص: 249 ] ومعنى
يد الله مغلولة الوصف بالبخل في العطاء لأن العرب يجعلون العطاء معبرا عنه باليد ، ويجعلون بسط اليد استعارة للبذل والكرم ، ويجعلون ضد البسط استعارة للبخل فيقولون : أمسك يده وقبض يده ، ولم نسمع منهم : غل يده ، إلا في القرآن كما هنا ، وقوله :
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك في سورة الإسراء ، وهي استعارة قوية لأن مغلول اليد لا يستطيع بسطها في أقل الأزمان ، فلا جرم أن تكون استعارة لأشد البخل والشح .
واليهود أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذم . فقولهم هذا : إما أن يكون جرى مجرى التهكم بالمسلمين إلزاما لهذا القول الفاسد لهم ، كما روي أنهم قالوا ذلك لما كان المسلمون في أول زمن الهجرة في شدة ، وفرض الرسول عليهم الصدقات ، وربما استعان
باليهود في الديات . وكما روي أنهم قالوه لما نزل قوله تعالى
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فقالوا : إن رب
محمد فقير وبخيل . وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالى
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . ويؤيد هذا قوله : عقبه
وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا . وإما أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس; فقد روي في سبب نزولها أن
اليهود نزلت بهم شدة وأصابتهم مجاعة وجهد ، فقال
فنحاص بن عازورا هذه المقالة ، فإما تلقفوها منه على عادة جهل العامة ، وإما نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنهم يقلدونه ويقتدون به .
وقد ذمهم الله تعالى على كلا التقديرين ، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضا ، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات ، ولو كانت على نية إلزام الخصم ، والثاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفف من تصرف الله ، فقابل الله قولهم بالدعاء عليهم . وذلك ذم على طريقة العرب .
وجملة
غلت أيديهم معترضة بين جملة وقالت
اليهود وبين جملة
بل يداه مبسوطتان . وهي إنشاء سب لهم .
[ ص: 250 ] وأخذ لهم من الغل المجازي مقابله الغل الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه ، كقول النبيء صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341643عصية عصت الله ورسوله ، وأسلم سلمها الله ، وغفار غفر الله لها .
وجملة
ولعنوا بما قالوا يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم ، ويجوز أن تكون إخبارا بأن الله لعنهم لأجل قولهم هذا ، نظير ما في قوله تعالى
وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله في سورة النساء . وقوله :
بل يداه مبسوطتان نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى . وبسط اليدين تمثيل للعطاء ، وهو يتضمن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين .
وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجود ، وإلا فاليد في حال الاستعارة للجود أو للبخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد ، فالتثنية مستعملة في مطلق التكرير ، كقوله تعالى
ثم ارجع البصر كرتين ، وقولهم " لبيك وسعديك " . وقال الشاعر أنشده في الكشاف ولم يعزه هو ولا شارحوه :
جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده
وجملة
ينفق كيف يشاء بيان لاستعارة
يداه مبسوطتان . و " كيف " اسم دال على الحالة وهو مبني في محل نصب على الحال .
وفي قوله : كيف يشاء زيادة إشارة إلى أن تقتيره الرزق على بعض عبيده لمصلحة ، مثل العقاب على كفران النعمة ، قال تعالى
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض .