يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون .
استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية ، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدم من الثناء على القسيسين والرهبان . وإذ قد كان من سنتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيبات كالتدهن وترفيه الحالة وحسن اللباس . نبه الله المؤمنين على أن الثناء على الرهبان والقسيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانية . وصادف أن كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمحت نفوسهم إلى التقلل من التعلق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيد الزاهدين صلى الله عليه وسلم . روى
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري والواحدي nindex.php?page=hadith&LINKID=10341656أن نفرا تنافسوا في الزهد . فقال أحدهم : أما أنا فأقوم الليل [ ص: 14 ] لا أنام ، وقال الآخر : أما أنا فأصوم النهار ، وقال الآخر : أما أنا فلا آتي النساء ، فبلغ خبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم ، فقال : ألم أنبأ أنكم قلتم كذا ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير ، قال : لكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني فنزلت هذه الآية . ومعنى هذا في صحيحي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك وليس فيه أن ذلك سبب نزول هذه الآية .
وروي
أن ناسا منهم ، وهم : أبو بكر ، وعلي ، nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ، nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ، وأبو ذر ، nindex.php?page=showalam&ids=267وسالم مولى أبي حذيفة ، nindex.php?page=showalam&ids=53والمقداد بن الأسود ، nindex.php?page=showalam&ids=23وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن اجتمعوا في دار nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون واتفقوا على أن يرفضوا أشغال الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهبوا . فقام رسول الله فغلظ فيهم المقالة ، ثم قال : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع . فنزلت فيهم هذه الآية . . وهذا الخبر يقتضي أن هذا الاجتماع كان في أول مدة الهجرة لأن
nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون لم يكن له دار
بالمدينة وأسكنه النبيء صلى الله عليه وسلم في دار
أم العلاء الأنصارية التي قيل : إنها زوجة
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت ، وتوفي
nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة . وفي رواية : أن ناسا قالوا إن
النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم على أنفسنا بعض الطيبات ، فحرم بعضهم على نفسه أكل اللحم ، وبعضهم النوم ، وبعضهم النساء ، وأنهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه . فنزلت هذه الآية .
وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح ، مثل حديث
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاصي .
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341658قال لي رسول الله : ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار ، قلت : إني أفعل ذلك . قال : فإنك إذا فعلت هجمت عينك ونفهت نفسك [ ص: 15 ] وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ، فصم وأفطر وقم ونم . . وحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341659سلمان مع nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء أن سلمان زار nindex.php?page=showalam&ids=4أبا الدرداء فصنع nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء طعاما فقال لسلمان : كل فإني صائم ، فلما كان الليل ذهب nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فنام . فلما كان آخر الليل قال سلمان : قم الآن ، وقال سلمان : إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه . فأتى النبيء صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبيء عليه الصلاة والسلام : صدق سلمان . وفي الحديث الصحيح أن النبيء صلى الله عليه وسلم ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341660أما أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .
والنهي إنما هو تحريم ذلك على النفس . أما ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبر على الحرمان عند عدم الوجدان ، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس . وكذلك الإعراض عن كثير من الطيبات للتطلع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد ، وقد كان ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه ، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس ، فالتطلع إليها تعسير ، وهو مع ذلك كان يتناول الطيبات دون تشوف ولا تطلع ، وفي تناولها شكر لله تعالى ، كما ورد في قصة
nindex.php?page=showalam&ids=11856أبي الدحداح حين حل رسول الله
وأبو بكر وعمر في حائطه وأطعمهم وسقاهم . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : أنه دعي إلى طعام ومعه
فرقد السبخي وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمن وفالوذ فاعتزل
فرقد ناحية . فسأله
الحسن : أصائم أنت ، قال : لا ولكني أكره الألوان لأني
[ ص: 16 ] لا أؤدي شكره ، فقال له
الحسن : أفتشرب الماء البارد ، قال : نعم ، قال : إن نعمة الله في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذ .
وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصة بل أن يتركه تشديدا على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به .
ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغوا في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلا إليها وهي كل حال عدا تحريم الزوجة ; ولذلك قال
مالك فيمن حرم على نفسه شيئا من الحلال أو عمم فقال : الحلال علي حرام ، أنه لا شيء في شيء من الحلال إلا الزوجة فإنها تحرم عليه كالبتات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم ، على حكم الاستثناء في اليمين . ووجهه أن عقد العصمة يتطرق إليه التحريم شرعا في بعض الأحوال ، فكان التزام التحريم لازما فيها خاصة ، فإنه لو حرم الزوجة وحدها حرمت ، فكذلك إذا شملها لفظ عام . ووافقه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وقال
أبو حنيفة : من حرم على نفسه شيئا من الحلال حرم عليه تناوله ما لم يكفر كفارة يمين ، فإن كفر حل له إلا الزوجة . وذهب
مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها .
وفي قوله تعالى
لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم تنبيه لفقهاء الأمة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه ، أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية .
ثم إن أهل الجاهلية كانوا قد حرموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام ، وقد أبطلها الله بقوله
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، وقوله
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ، وقوله
قل آلذكرين حرم أم الأنثيين إلى قوله
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ، وغير ذلك من الآيات . وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح
مكة دفعة واحدة كما
[ ص: 17 ] وصفهم الله بقوله
يدخلون في دين الله أفواجا . وكان قصر الزمان واتساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم ، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدة نزول هذه السورة ، وهي أيام حجة الوداع وما تقدمها وما تأخر عنها .
وجملة ( ولا تعتدوا ) معترضة لمناسبة أن تحريم الطيبات اعتداء على ما شرع الله ، فالواو اعتراضية . وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلا .
والاعتداء افتعال العدو ، أي الظلم . وذكره في مقابلة تحريم الطيبات يدل على أن المراد النهي عن تجاوز حد الإذن المشروع ، كما قال
تلك حدود الله فلا تعتدوها . فلما نهى عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرمات وذلك بالاعتداء على حقوق الناس ، وهو أشد الاعتداء ، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حق الناس ، كتناول الخنزير أو الميتة . ويعم الاعتداء في سياق النهي جميع جنسه مما كانت عليه الجاهلية من العدوان ، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأد ، وأكل مال اليتيم ، وعضل الأيامى ، وغير ذلك .
وجملة
إن الله لا يحب المعتدين تذييل للتي قبلها للتحذير من كل اعتداء .
وقوله
وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا تأكيد للنهي عن تحريم الطيبات وهو معطوف على قوله
لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم . أي أن الله وسع عليكم بالحلال فلا تعتدوه إلى الحرام فتكفروا النعمة ولا تتركوه بالتحريم فتعرضوا عن النعمة .
واقتصر على الأكل لأن معظم ما حرمه الناس على أنفسهم هو المآكل . وكأن الله يعرض بهم بأن الاعتناء بالمهمات خير من التهمم بالأكل ، كما قال
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية . وبذلك أبطل
[ ص: 18 ] ما في الشرائع السابقة من شدة العناية بأحكام المأكولات . وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة .
وقوله
واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون جاء بالموصول للإيماء إلى علة الأمر بالتقوى ، أي لأن شأن الإيمان أن يقتضي التقوى ، فلما آمنتم بالله واهتديتم إلى الإيمان فكملوه بالتقوى . روي أن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري لقي
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق في جنازة ، وكانا عند القبر ، فقال
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=14899للفرزدق : ما أعددت لهذا . يعني القبر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق : شهادة أن لا إله إلا الله كذا سنة . فقال
الحسن : هذا العمود ، فأين الإطناب .