ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين .
يجوز أن تكون الواو عاطفة ، والمعطوف عليه جملة
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلخ ، وما بينهما جملا تعلقت بالجملة الأولى على طريقة الاعتراض ، فلما ذكر الآيات
[ ص: 141 ] في الجملة الأولى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضح الآيات دلالة على صدق
محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي أن ينزل الله عليه كتابا من السماء على صورة الكتب المتعارفة ، فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم - لما آمنوا ولادعوا أن ذلك الكتاب سحر .
ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير كذبوا في قوله :
فقد كذبوا بالحق لما جاءهم أي أنكروا كون القرآن من عند الله ، وكونه آية على صدق الرسول ، وزعموا أنه لو كان من عند الله لنزل في صورة كتاب من السماء ، فإنهم قالوا :
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة وقالوا :
حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه فكان قوله :
فقد كذبوا بالحق لما جاءهم مشتملا بالإجمال على أقوالهم فصح مجيء الحال منه ، وما بينهما اعتراض أيضا .
وعلى الوجه الأول فالكتاب الشيء المكتوب سواء كان سفرا أم رسالة ، وعلى الثاني فالمراد بكتاب سفر أي مثل التوراة .
والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - لا محالة لأن كل كلام ينزل من القرآن موجه إليه لأنه المبلغ ، فانتقال الخطاب إليه بعد الحديث عن ذوي ضمائر أخرى لا يحتاج إلى مناسبة في الانتقال . وليس يلزم أن يكون المراد كتابا فيه تصديقه بل أعم من ذلك .
وقوله في : قرطاس صفة لـ كتاب ، والظرفية مجازية من ظرفية اسم الشيء في اسم جزئه . والقرطاس بكسر القاف على الفصيح ، ونقل ضم القاف وهو ضعيف . وهو اسم للصحيفة التي يكتب فيها ويكون من رق ومن بردي ومن كاغد ، ولا يختص بما كان من كاغد بل يسمى قرطاسا ما كان من رق . ومن الناس من زعم أنه لا يقال قرطاس إلا لما كان مكتوبا وإلا سمي طرسا ، ولم يصح . وسمى العرب الأديم الذي يجعل غرضا لمتعلم الرمي قرطاسا فقالوا : سدد القرطاس ، أي سدد رميه . قال
الجواليقي : القرطاس تكلموا به قديما ويقال : إن أصله غير عربي . ولم يذكر ذلك
الراغب ولا لسان العرب ولا القاموس ، وأثبته
الخفاجي في شفاء الغليل . وقال : هو الفرس الأبيض . وقال
الآلوسي : أصله كراسة . ولم يذكروا أنه معرب عن أي لغة ، فإن كان معربا فلعله معرب عن الرومية ، ولذلك كان اسم الورقة في لغة بعضهم اليوم ( كارتا ) .
[ ص: 142 ] وقوله فلمسوه عطف على نزلنا . واللمس وضع اليد على الشيء لمعرفة وجوده ، أو لمعرفة وصف ظاهره من لين أو خشونة ، ومن برودة أو حرارة ، أو نحو ذلك . فقوله بأيديهم تأكيد لمعنى اللمس لرفع احتمال أن يكون مجازا في التأمل ، كما في قوله تعالى :
وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وللإفصاح عن منتهى ما اعتيد من مكابرتهم ووقاحتهم في الإنكار والتكذيب ، وللتمهيد لقوله :
لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ، لأن المظاهر السحرية تخيلات لا تلمس .
وجاء قوله
الذين كفروا دون أن يقول : لقالوا ، كما قال : فلمسوه إظهارا في مقام الإضمار لقصد تسجيل أن دافعهم إلى هذا التعنت هو الكفر ، لأن الموصول يؤذن بالتعليل .
ومعنى
إن هذا إلا سحر مبين أنهم يغالطون أنفسهم ويغالطون قومهم لستر مكابرتهم ولدفع ما ظهر من الغلبة عليهم . وهذا شأن المغلوب المحجوج أن يتعلق بالمعاذير الكاذبة .
والمبين : البين الواضح ، مشتق من ( أبان ) مرادف ( بان ) . وتقدم معنى السحر عند قوله تعالى :
يعلمون الناس السحر في سورة البقرة .