ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين .
عطف على جملة
فإنهم لا يكذبونك أو على جملة
ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون . ويجوز أن تكون الواو واو الحال من الكلام المحذوف قبل الفاء ، أي فلا تحزن ، أو إن أحزنك ذلك فإنهم لا يكذبونك والحال قد كذبت رسل من قبلك . والكلام على كل تقدير تسلية وتهوين وتكريم بأن
إساءة أهل الشرك لمحمد عليه الصلاة والسلام هي دون ما أساء الأقوام إلى الرسل من قبله ; فإنهم كذبوا بالقول والاعتقاد وأما قومه فكذبوا بالقول فقط . وفي الكلام أيضا تأس للرسول بمن قبله من الرسل .
[ ص: 201 ] ولام القسم لتأكيد الخبر بتنزيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزلة من ذهل طويلا عن تكذيب الرسل لأنه لما أحزنه قول قومه فيه كان كمن بعد علمه بذلك . و ( من قبلك ) وصف كاشف لـ ( رسل ) جيء به لتقرير معنى التأسي بأن ذلك سنة الرسل .
وفي موقع هذه الآية بعد التي قبلها إيماء
لرجاحة عقول العرب على عقول من سبقهم من الأمم ، فإن الأمم كذبت رسلها باعتقاد ونطق ألسنتها ، والعرب كذبوا باللسان وأيقنوا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام بعقولهم التي لا يروج عندها الزيف .
و ( ما ) مصدرية ، أي صبروا على التكذيب ، فيجوز أن يكون قوله وأوذوا عطفا على كذبوا وتكون جملة ( فصبروا ) معترضة . والتقدير : ولقد كذبت وأوذيت رسل فصبروا . فلا يعتبر الوقف عند قوله
على ما كذبوا بل يوصل الكلام إلى قوله نصرنا ، وأن يكون عطفا على
كذبت رسل ، أي كذبت وأوذوا . ويفهم الصبر على الأذى من الصبر على التكذيب لأن التكذيب أذى فيحسن الوقف عند قوله
على ما كذبوا .
وقرن فعل كذبت بعلامة التأنيث لأن فاعل الفعل إذا كان جمع تكسير يرجح اتصال الفعل بعلامة التأنيث على التأويل بالجماعة . ومن ثم جاء فعلا ( فصبروا ) و ( كذبوا ) مقترنين بواو الجمع ، لأن فاعليهما ضميران مستتران فرجح اعتبار التذكير .
وعطف ( وأوذوا ) على ( كذبت ) عطف الأعم على الأخص ، والأذى أعم من التكذيب ، لأن الأذى هو ما يسوء ولو إساءة ما ، قال تعالى
لن يضروكم إلا أذى ويطلق على التشديد منه . فالأذى اسم اشتق منه أذى إذا جعل له أذى وألحقه به . فالهمزة به للجعل أو للتصيير . ومصادر هذا الفعل أذى وأذاة وأذية . وكلها أسماء مصادر وليست مصادر . وقياس مصدره الإيذاء لكنه لم يسمع في كلام العرب . فلذلك قال صاحب القاموس : لا يقال : إيذاء . وقال
الراغب : يقال : إيذاء . ولعل الخلاف مبني على الخلاف في أن القياسي يصح إطلاقه ولو لم يسمع في كلامهم أو يتوقف إطلاقه
[ ص: 202 ] على سماع نوعه من مادته . ومن أنكر على صاحب القاموس فقد ظلمه . وأيا ما كان فالإيذاء لفظ غير فصيح لغرابته . ولقد يعد على صاحب الكشاف استعماله هنا وهو ما هو في علم البلاغة .
و ( حتى ) ابتدائية أفادت غاية ما قبلها ، وهو التكذيب والأذى والصبر عليهما ، فإن النصر كان بإهلاك المكذبين المؤذين ، فكان غاية للتكذيب والأذى ، وكان غاية للصبر الخاص ، وهو الصبر على التكذيب والأذى ، وبقي صبر الرسل على أشياء مما أمر بالصبر عليه .
والإتيان في قوله
أتاهم نصرنا مجاز في وقوع النصر بعد انتظاره ، فشبه وقوعه بالمجيء من مكان بعيد كما يجيء المنادى المنتظر . وتقدم بيان هذا عند قوله تعالى
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين في هذه السورة .
وجملة
ولا مبدل عطف على جملة
أتاهم نصرنا .
وكلمات الله وحيه للرسل الدال على وعده إياهم بالنصر ، كما دلت عليه إضافة النصر إلى ضمير الجلالة . فالمراد كلمات من نوع خاص ، فلا يرد أن بعض كلمات الله في التشريع قد تبدل بالنسخ ; على أن التبديل المنفي مجاز في النقض ، كما تقدم في قوله تعالى
فمن بدله بعدما سمعه في سورة البقرة . وسيأتي تحقيق لهذا المعنى عند قوله تعالى
وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته في هذه السورة .
وهذا تطمين للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن الله ينصره كما نصر من قبله من الرسل ، ويجوز أن تكون كلمات الله ما كتبه في أزله وقدره من سننه في الأمم ، أي أن إهلاك المكذبين يقع كما وقع إهلاك من قبلهم .
ونفي المبدل كناية عن نفي التبديل ، أي لا تبديل ، لأن التبديل لا يكون إلا من مبدل . ومعناه : أن غير الله عاجز عن أن يبدل مراد الله ، وأن الله أراد أن لا يبدل كلماته في هذا الشأن .
وقوله
ولقد جاءك من نبإ المرسلين عطف على جملة
ولا مبدل لكلمات الله ،
[ ص: 203 ] وهو كلام جامع لتفاصيل ما حل بالمكذبين ، وبكيف كان نصر الله رسله . وذلك في تضاعيف ما نزل من القرآن في ذلك .
والقول في جاءك كالقول في
أتاهم نصرنا ، فهو مجاز في بلوغ ذلك وإعلام النبيء - صلى الله عليه وسلم - به .
و ( من ) في قوله من نبأ إما اسم بمعنى ( بعض ) فتكون فاعلا مضافة إلى ( لنبأ ) ، وهو ناظر إلى قوله تعالى
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . والأحسن أن تجعل صفة لموصوف محذوف تقديره : لقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين . والنبأ الخبر عن أمر عظيم ، قال تعالى
عم يتساءلون عن النبأ العظيم ، وقال
قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ، وقال في هذه السورة
لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون .