قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي .
[ ص: 240 ] لما تقضت المجادلة مع المشركين في إبطال شركهم ودحض تعاليل إنكارهم نبوءة
محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يؤمنون بنبوءته إلا إذا جاء بآية على وفق هواهم ، وأبطلت شبهتهم بقوله
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين وكان
محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن شمله لفظ المرسلين ، نقل الكلام إلى إبطال معاذيرهم فأعلمهم الله حقيقة الرسالة واقترانها بالآيات فبين لهم أن الرسول هو الذي يتحدى الأمة لأنه خليفة عن الله في تبليغ مراده من خلقه ، وليست الأمة هي التي تتحدى الرسول ، فآية صدق الرسول تجيء على وفق دعواه الرسالة ، فلو ادعى أنه ملك أو أنه بعث لإنقاذ الناس من أرزاء الدنيا ولإدناء خيراتها إليهم ؛ لكان من عذرهم أن يسألوه آيات تؤيد ذلك . فأما والرسول مبعوث للهدى فآيته أن يكون ما جاء به هو الهدى وأن تكون معجزته هو ما قارن دعوته مما يعجز البشر عن الإتيان بمثله في زمنهم .
فقوله
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من غرض إلى غرض .
وافتتاح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام بإبلاغه ، كما تقدم عند قوله تعالى
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة .
وقد تكرر الأمر بالقول من هنا إلى قوله
لكل نبإ مستقر اثنتي عشرة مرة .
والاقتصار على نفي ادعاء هذه الثلاثة المذكورة في الآية ناظر إلى ما تقدم ذكره من الآيات التي سألوها من قوله تعالى
وقالوا لولا أنزل عليه ملك وقوله
ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس وقوله
فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض الآية .
وافتتح الكلام بنفي القول ليدل على أن هذا القول لم يقترن بدعوى الرسالة فلا وجه لاقتراح تلك الأمور المنفي قولها على الرسول لأن المعجزة من شأنها أن تجيء على وفق دعوى الرسالة .
واللام في لكم لام التبليغ ، وهي مفيدة تقوية فعل القول عندما لا تكون حاجة
[ ص: 241 ] لذكر المواجه بالقول كما هنا لظهور أن المواجه بالقول هم المكذبون ، ولذلك ورد قوله تعالى
ولا أقول إني ملك مجردا عن لام التبليغ . فإذا كان الغرض ذكر المواجه بالقول فاللام حينئذ تسمى لام تعدية فعل القول فالذي اقتضى اجتلاب هذه اللام هنا هو هذا القول بحيث لو قاله قائل لكان جديرا بلام التبليغ .
والخزائن جمع خزانة بكسر الخاء وهي البيت أو الصندوق الذي يحتوي ما تتوق إليه النفوس وما ينفع عند الشدة والحاجة . والمعنى أني ليس لي تصرف مع الله ولا أدعي أني خازن معلومات الله وأرزاقه .
و
خزائن الله مستعارة لتعلق قدرة الله بالإنعام وإعطاء الخيرات النافعة للناس في الدنيا . شبهت تلك التعلقات الصلوحية والتنجيزية في حجبها عن عيون الناس وتناولهم مع نفعها إياهم ، بخزائن أهل اليسار والثروة التي تجمع الأموال والأجبية والخلع والطعام ، كما أطلق عليها ذلك في قوله تعالى
ولله خزائن السماوات والأرض ، أي ما هو مودع في العوالم العليا والسفلى مما ينفع الناس ، وكذلك قوله
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه .
وتقديم المسند وهو قوله عندي للاهتمام به لما فيه من الغرابة والبشارة للمخبرين به لو كان يقوله .
وقوله
ولا أعلم الغيب عطف على
عندي خزائن الله فهو في حيز القول المنفي . وأعيد حرف النفي على طريقة عطف المنفيات بعضها على بعض فإن الغالب أن يعاد معها حرف النفي للتنصيص على أن تلك المتعاطفات جميعها مقصودة بالنفي بآحادها لئلا يتوهم أن المنفي مجموع الأمرين . والمعنى لا أقول أعلم الغيب ، أي علما مستمرا ملازما لصفة الرسالة . فأما إخباره عن بعض المغيبات فذلك عند إرادة الله إطلاعه عليه بوحي خاص ، كما قال تعالى
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول وهو داخل تحت قوله
إن أتبع إلا ما يوحى إلي .
وعطف
ولا أقول لكم إني ملك على
لا أقول لكم عندي خزائن الله [ ص: 242 ] بإظهار فعل القول فيه ، خلافا لقوله
ولا أعلم الغيب - لعله لدفع ثقل التقاء حرفين : ( لا ) وحرف ( إن ) الذي اقتضاه مقام التأكيد ، لأن ادعاء مثله من شأنه أن يؤكد ، أي لم أدع أني من الملائكة فتقولوا
لولا أنزل عليه ملك . فنفي كونه ملكا جواب عن مقترحهم أن ينزل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذير . والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارنا لملك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد . وكانوا يتوهمون أن الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا
ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . فالمعنى نفي ماهية الملكية عنه لأن لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر . وهذا كما يقول القائل لمن يكلفه عنتا : إني لست من حديد .
ومن تلفيق الاستدلال أن يستدل
الجبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بعد ذلك عن مهيع الآية . وقد تابعه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وكذلك دأبه ؛ كثيرا ما يرغم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزوي عصبيته وتنزوي عبقريته ، وهذه مسألة سنتكلم عليها في مظنتها .
وجملة
إن أتبع إلا ما يوحى إلي مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ لأنه لما نفى أن يقول هذه المقالات كان المقام مثيرا سؤال سائل يقول : فماذا تدعي بالرسالة وما هو حاصلها ؟ لأن الجهلة يتوهمون أن معنى النبوءة هو تلك الأشياء المتبرأ منها في قوله
قل لا أقول لكم عندي خزائن إلخ ، فيجاب بقوله
إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، أي ليست الرسالة إلا التبليغ عن الله تعالى بواسطة الوحي .
فمعنى أتبع مجاز مرسل في الاقتصار على الشيء وملازمته دون غيره . لأن ذلك من لوازم معنى الاتباع الحقيقي وهو المشي خلف المتبع بفتح الموحدة ، أي لا أحيد عن تبليغ ما يوحى إلي إلى إجابة المقترحات من إظهار الخوارق أو لإضافة الأرزاق أو إخبار بالغيب . فالتلقي والتبليغ هو معنى الاتباع ، وهو كنه الرسالة عن الله تعالى . فالقصر المستفاد هنا إضافي ، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة . والغرض من القصر قلب اعتقادهم أن الرسول لا يكون رسولا حتى يأتيهم بالعجائب
[ ص: 243 ] المسئولة . وقد حصل بذلك بيان حقيقة الرسالة ، تلك الحقيقة التي ضل عن إدراكها المعاندون . وهذا معنى قوله تعالى
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين .
وإذ قد كان القصر إضافيا كان لا محالة ناظرا إلى قلب اعتقادهم بالنسبة لمطالبهم باتباع مقترحاتهم ، أي لا أتبع في التبليغ إليكم إلا ما يوحى إلي . فليس في هذا الكلام ما يقتضي قصر تصرف الرسول عليه الصلاة والسلام على العمل بالوحي حتى يحتج بها من ينفي من علمائنا جواز
الاجتهاد للنبيء - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدين لأن تلك مسألة مستقلة لها أدلة للجانبين ، ولا مساس لها بهذا القصر . ومن توهمه فقد أساء التأويل .