وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم .
عطف على قوله
ولا تطرد الذين يدعون ربهم وهو ارتقاء في إكرام الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . فهم المراد بقوله
الذين يؤمنون بآياتنا .
[ ص: 257 ] ومعنى
يؤمنون بآياتنا أنهم يوقنون بأن الله قادر على أن ينزل آيات جمة . فهم يؤمنون بما نزل من الآيات وبخاصة آيات القرآن وهو من الآيات ، قال تعالى
أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم .
وقوله
فقل سلام عليكم قيل : معناه حيهم بتحية الإسلام ، وهي كلمة ( سلام عليكم ) ، وقيل : أبلغهم السلام من الله تعالى تكرمة لهم لمضادة طلب المشركين طردهم .
وقد أكرمهم الله كرامتين : الأولى أن يبدأهم النبيء صلى الله عليه وسلم بالسلام حين دخولهم عليه وهي مزية لهم ، لأن
شأن السلام أن يبتدئه الداخل ، ثم يحتمل أن هذا حكم مستمر معهم كلما أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه للمرة التي يبلغهم فيها هذه البشارة ، فنزل هو منزلة القادم عليهم لأنه زف إليهم هذه البشرى .
والكرامة الثانية : هي بشارتهم برضى الله عنهم بأن غفر لهم ما يعملون من سوء إذا تابوا من بعده وأصلحوا . وهذا الخبر وإن كان يعم المسلمين كلهم فلعله لم يكن معلوما ، فكانت البشارة به في وجوه المؤمنين يومئذ تكرمة لهم ليكونوا ميموني النقيبة على بقية إخوانهم والذين يجيئون من بعدهم .
والسلام : الأمان ، كلمة قالتها العرب عند لقاء المرء بغيره دلالة على أنه مسالم لا محارب لأن العرب كانت بينهم دماء وترات وكانوا يثأرون لأنفسهم ولو بغير المعتدي من قبيلته ، فكان الرجل إذا لقي من لا يعرفه لا يأمن أن يكون بينه وبين قبيلته إحن وحفائظ فيؤمن أحدهما الآخر بقوله : السلام عليكم ، أو سلام ، أو نحو ذلك . وقد حكاها الله تعالى عن
إبراهيم عليه السلام ثم شاع هذا اللفظ فصار مستعملا في التكرمة . ومصدر سلم التسليم . والسلام اسم مصدر ، وهو يأتي في الاستعمال منكرا مرفوعا ومنصوبا ، ومعرفا باللام مرفوعا لا غير . فأما تنكيره مع الرفع كما في هذه الآية ، فهو على اعتباره اسما بمعنى الأمان ، وساغ الابتداء به لأن المقصود النوعية لا فرد معين . وإنما لم يقدم الخبر لاهتمام القادم بإدخال الطمأنينة في نفس المقدوم عليه ، أنه طارق خير لا طارق شر . فهو من التقديم لضرب من التفاؤل .
وأما تعريفه مع الرفع فلدخول لام تعريف الجنس عليه .
[ ص: 258 ] وكلمة ( على ) في الحالتين للدلالة على تمكن التلبس بالأمان ، أي الأمان مستقر منكم متلبس بكم ، أي لا تخف .
وأما إن نصبوا مع التنكير فعلى اعتباره كمصدر سلم ، فهو مفعول مطلق أتى بدلا من فعله . تقديره : سلمت سلاما ، فلذلك لا يؤتى معه بـ ( على ) . ثم أنهم يرفعونه أيضا على هذا الاعتبار فلا يأتون معه بـ ( على ) لقصد الدلالة على الدوام والثبات بالجملة الاسمية بالرفع ، لأنه يقطع عنه اعتبار البدلية عن الفعل ولذلك يتعين تقدير مبتدأ ، أي أمركم سلام ، على حد
فصبر جميل . والرفع أقوى ، ولذلك قيل : إن
إبراهيم رد تحية أحسن من تحية الملائكة ، كما حكي بقوله تعالى
قالوا سلاما قال سلام . وقد ورد في
رد السلام أن يكون بمثل كلمة السلام الأولى ، كقوله تعالى
إلا قيلا سلاما سلاما وورد بالتعريف والتنكير فينبغي جعل الرد أحسن دلالة . فأما التعريف والتنكير فهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس . ولذلك جاء في القرآن ذكر
عيسى وسلام عليه يوم ولد وجاء أنه قال
والسلام علي يوم ولدت .
وجملة
كتب ربكم على نفسه الرحمة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وهي أول المقصود من المقول ، وأما السلام فمقدمة للكلام . وجوز بعضهم أن تكون كلاما ثانيا .
وتقدم تفسير نظيره في قوله تعالى
كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة في هذه السورة .
فقوله هنا
كتب ربكم على نفسه الرحمة تمهيد لقوله
أنه من عمل منكم سوءا بجهالة إلخ .
وقوله
أنه من عمل منكم سوءا بجهالة قرأه
نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب بفتح الهمزة على أنه بدل من الرحمة بدل اشتمال ، لأن الرحمة العامة تشتمل على
غفران ذنب من عمل ذنبا ثم تاب وأصلح . وقرأه الباقون بكسر الهمزة على أن يكون استئنافا بيانيا لجواب سؤال متوقع عن مبلغ الرحمة .
[ ص: 259 ] ( ومن ) شرطية ، وهي أدل على التعميم من الموصولة . والباء في قوله " بجهالة " للملابسة ، أي ملتبسا بجهالة . والمجرور في موضع الحال من ضمير " عمل " .
والجهالة تطلق على انتفاء العلم بشيء ما . وتطلق على ما يقابل الحلم ، وقد تقدم في قوله تعالى
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة في سورة النساء . والمناسب هنا هو المعنى الثاني ، أي من عمل سوءا عن حماقة من نفسه وسفاهة ، لأن المؤمن لا يأتي السيئات إلا عن غلبة هواه رشده ونهاه . وهذا الوجه هو المناسب لتحقيق معنى الرحمة . . وأما حمل الجهالة على معنى عدم العلم بناء على أن
الجاهل بالذنب غير مؤاخذ ، فلا قوة لتفريع قوله
ثم تاب من بعده وأصلح عليه ، إلا إذا أريد ثم تفطن إلى أنه عمل سوءا .
والضمير في قوله من بعده عائد إلى " سوءا " أي بعد السوء ، أي بعد عمله . ولك أن تجعله عائدا إلى المصدر المضمون في عمل مثل
اعدلوا هو أقرب للتقوى .
ومعنى أصلح صير نفسه صالحة ، أو أصلح عمله بعد أن أساء . وقد تقدم عند قوله تعالى
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه في سورة المائدة . وعند قوله
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا في سورة البقرة .
وجملة
فإنه غفور رحيم دليل جواب الشرط ، أي هو شديد المغفرة والرحمة ، وهذا كناية عن المغفرة لهذا التائب المصلح .
وقرأه
نافع ،
وابن كثير ،
وأبو عمرو ،
وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وأبو جعفر ،
وخلف بكسر همزة " فإنه غفور رحيم " على أن الجملة مؤكدة بـ ( إن ) فيعلم أن المراد أن الله قد غفر لمن تاب لأنه كثير المغفرة والرحمة . وقرأه
ابن عامر ،
وعاصم ،
ويعقوب ( فأنه ) بفتح الهمزة على أنها ( أن ) المفتوحة أخت ( إن ) ، فيكون ما بعدها مئولا بمصدر . والتقدير : فغفرانه ورحمته . وهذا جزء جملة يلزمه تقدير خبر ، أي له ، أي ثابت لمن عمل سوءا ثم تاب .