ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين
قيل عطفه بـ ( ثم ) لأن بين ابتداء التعليم وبين العرض مهلة وهي
مدة تلقين الأسماء لآدم أو مدة إلهامه وضع الأسماء للمسميات . والأظهر أن ( ثم ) هنا للتراخي الرتبي كشأنها في عطفها الجمل لأن رتبة هذا العرض وظهور عدم علم الملائكة وظهور علم
آدم وظهور أثر علم الله وحكمته كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية
آدم واستحقاقه الخلافة ، من رتبة مجرد تعلمه الأسماء لو بقي غير متصل به ما حدث من الحادثة كلها .
ولما كان مفهوم لفظ اسم من المفهومات الإضافية التي يتوقف تعقلها على تعقل غيرها - إذ الاسم لا يكون إلا المسمى - كان
[ ص: 412 ] ذكر الأسماء مشعرا لا محالة بالمسميات فجاز للبليغ أن يعتمد على ذلك ويحذف لفظ المسميات إيجازا . وضمير ( عرضهم ) للمسميات لأنها التي تعرض بقرينة قوله
أنبئوني بأسماء هؤلاء وبقرينة قوله
وعلم آدم الأسماء كلها فإن الاسم يقتضي مسمى وهذا من إيجاز الحذف ، وأما الأسماء فلا تعرض لأن العرض إظهار الذات بعد خفائها ومنه عرض الشيء للبيع ويوم العرض ، والألفاظ لا تظهر فتعين أن المعروض مدلولات الأسماء إما بأن تعرض صور من الذوات فقط ويسأل عن معرفة أسمائها أي معرفة الألفاظ الدالة عليها ، أو عن بيان مواهيها وخصائصها ، وإما بأن تعرض الذوات والمعاني بخلق أشكال دالة على المعاني كعرض الشجاعة في صورة فعل صاحبها والعلم في صورة إفاضة العالم في درسه أو تحريره كما نرى في الصور المنحوتة أو المدهونة للمعاني المعقولة عند اليونان والرومان
والفرس والصور الذهنية عند الإفرنج ، بحيث يجد الملائكة عند مشاهدة تلك الهيئة أن المعروض معنى شجاعة أو معنى علم ويقرب ذلك ما يحصل في المرائي الحلمية . والحاصل أن الحال المذكورة في الآية حالة عالم أوسع من عالم المحسوسات والمادة .
وإعادة ضمير المذكر العاقل على المسميات في قوله
عرضهم للتغليب لأن أشرف المعروضات ذوات العقلاء وصفاتهم على أن ورود مثله بالألفاظ التي أصلها للعقلاء طريقة عربية نحو قوله تعالى
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا والداعي إلى هذا أن يعلم ابتداء أن المعروض غير الأسماء حتى لا يضل فهم السامع قبل سماع قرينة
أنبئوني بأسماء هؤلاء وقوله تعالى
فقال أنبئوني تفريع على العرض ، وقرن بالفاء لذلك . والأمر في قوله أنبئوني أمر تعجيز بقرينة كون المأمور يعلم أن الآمر عالم بذلك فليس هذا من التكليف بالمحال كما ظنه بعض المفسرين . واستعمال صيغة الأمر في التعجيز مجاز ، ثم إن ذلك المعنى المجازي يستلزم علم الآمر بعجز المأمور وذلك يستلزم علم الآمر بالمأمور به . والإنباء الإخبار بالنبأ وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة والأهمية بحيث يحرص السامعون على اكتسابه ، ولذلك تضمن الإنباء معنى الإعلام لأن المخبر به يعد مما يعلم ويعتقد بوجه أخص من اعتقاد مطلق الخبر فهو أخص من الخبر .
وقوله إن كنتم صادقين إما أراد به إن كنتم صادقين في أنكم أفضل من هذا المخلوق إن كان قولهم
ونحن نسبح إلخ تعريضا بأنهم أحقاء بذلك . أو أراد إن كنتم
[ ص: 413 ] صادقين في عدم جدارة
آدم بالخلافة كما دل عليه قولهم
أتجعل فيها من يفسد فيها كان قولهم
ونحن نسبح بحمدك لمجرد التفويض أو الإعلان للسامعين من أهل الملأ الأعلى بالبراءة من شائبة الاعتراض على ما اخترناه .
ووجه الملازمة بين الإنباء بالأسماء وبين صدقهم فيما ادعوه التي اقتضاها ربط الجزاء بالشرط أن العلم بالأسماء عبارة عن القوة الناطقة الصالحة لاستفادة المعارف وإفادتها ، أو عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وخصائصها ، أو عبارة عن معرفة أسماء الذوات والمعاني ، وكل ذلك يستلزم ثبوت العالمية بالفعل أو بالقوة ، وصاحب هذا الوصف هو الجدير بالاستخلاف في العالم لأن وظيفة هذا الاستخلاف تدبير وإرشاد وهدي ووضع الأشياء مواضعها دون احتياج إلى التوقيف في غالب التصرفات ، وكل ذلك محتاج إلى القوة الناطقة أو فروعها ، والقوى الملكية على شرفها إنما تصلح لأعمال معينة قد سخرت لها لا تعدوها ولا تتصرف فيها بالتحليل والتركيب ، وما يذكر من تنوع تصرفها وصواب أعمالها إنما هو من توجيه الله تعالى إياها وتلقينه المعبر عنه بالتسخير . وبذلك ظهر وجه ارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط ، وقد تحير فيه كثير .
وإذا انتفى الإنباء انتفى كونهم صادقين في إنكارهم خلافة
آدم ، فإن كان محل الصدق هو دعواهم أنهم أجدر فقد ثبت عدمها ، وإن كان محل التصديق هو دعواهم أن البشر غير صالح للاستخلاف فانتفاء الإنباء لا يدل على انتفاء دعواهم ولكنه تمهيد له لأن بعده إنباء
آدم بالأسماء لأن المقام مؤذن بأنهم لما أمروا أمر تعجيز وجعل المأمور به دلالة على الصدق كان وراء ذلك إنباء آخر مترقب من الذي طعنوا في جدارته ، ويدل لذلك أيضا قوله تعالى لهم
إني أعلم ما لا تعلمون