أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده .
جملة ابتدائية قصد من استئنافها استقلالها للاهتمام بمضمونها ، ولأنها وقعت موقع التكرير لمضمون الجملتين اللتين قبلها : جملة وهديناهم إلى صراط مستقيم وجملة أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوءة . وحق التكرير أن يكون مفصولا ، وليبنى عليها التفريع في قوله فبهداهم اقتده .
[ ص: 355 ] والمشار إليهم باسم الإشارة هم المشار إليهم بقوله أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوءة فإنهم الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم .
وتكرير اسم الإشارة لتأكيد تمييز المشار إليه ولما يقتضيه التكرير من الاهتمام بالخبر .
وأفاد تعريف المسند والمسند إليه قصر جنس الذين هداهم الله على المذكورين تفصيلا وإجمالا ، لأن المهذبين من البشر لا يعدون أن يكونوا أولئك المسمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن من آبائهم
آدم وهو الأب الجامع للبشر كلهم ، فأريد بالهدى هدى البشر ، أي الصرف عن الضلالة ، فالقصر حقيقي . ولا نظر لصلاح الملائكة ؛ لأنه صلاح جبلي .
وعدل عن ضمير المتكلم إلى اسم الجلالة الظاهر لقرن هذا الخبر بالمهابة والجلالة .
وقوله فبهداهم اقتده تفريع على كمال ذلك الهدى ، وتخلص إلى ذكر حظ
محمد صلى الله عليه وسلم من هدى الله بعد أن قدم قبله مسهبا ذكر الأنبياء وهديهم إشارة إلى
علو منزلة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها منزلة جديرة بالتخصيص بالذكر حيث لم يذكر مع الأنبياء المتقدمين ، وأنه جمع هدى الأولين ، وأكملت له الفضائل ، وجمع له ما تفرق من الخصائص والمزايا العظيمة . وفي إفراده بالذكر وترك عده مع الأولين رمز بديع إلى فذاذته وتفرد مقداره ، ورعي بديع لحال مجيء رسالته بعد مرور تلك العصور المتباعدة أو المتجاورة ، ولذلك قدم المجرور وهو " بهداهم " على عامله ، للاهتمام بذلك الهدى ؛ لأنه هو منزلتك الجامعة للفضائل والمزايا ، فلا يليق به الاقتداء بهدى هو دون هداهم . ولأجل هذا لم يسبق للنبيء صلى الله عليه وسلم اقتداء بأحد ممن تحنفوا في الجاهلية أو تتنصروا أو تهودوا . فقد لقي النبيء صلى الله
[ ص: 356 ] عليه وسلم
زيد بن عمرو بن نفيل قبل النبوءة في
بلدح وعرض عليه أن يأكل معه من سفرته ، فقال
زيد إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم توهما منه أن النبيء صلى الله عليه وسلم يدين بدين الجاهلية ، وألهم الله
محمدا عليه الصلاة والسلام السكوت عن إجابته إلهاما لحفظ السر المدخر فلم يقل له إني لا أذبح على نصب . ولقي
ورقة بن نوفل غير مرة
بمكة . ولقي
بحيرا الراهب ولم يقتد بأحد من أولئك وبقي على الفطرة إلى أن جاءته الرسالة .
والاقتداء افتعال من " القدوة " بضم القاف وكسرها ، وقياسه على الإسوة يقتضي أن الكسر فيه أشهر . وقال في المصباح : الضم أكثر . ووقع في المقامات
للحريري " وقدوة الشحاذين " فضبط بالضم . وذكره
الواسطي في شرح ألفاظ المقامات في القاف المضمومة ، وروى فيه فتح القاف أيضا ، وهو نادر . والقدوة هو الذي يعمل غيره مثل عمله ، ولا يعرف له في اللغة فعل مجرد ، فلم يسمع إلا " اقتدى " . وكأنهم اعتبروا القدوة اسما جامدا واشتقوا منه الافتعال للدلالة على التكلف كما اشتقوا من اسم الخريف اخترف ، ومن الأسوة ائتسى ، وكما اشتقوا من اسم النمر تنمر ، ومن الحجر تحجر . وقد تستعمل القدوة اسم مصدر لاقتدى . يقال : لي في فلان قدوة ، كما في قوله تعالى "
لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة " .
وفي قوله فبهداهم اقتده تعريض للمشركين بأن
محمدا صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا على سنة الرسل كلهم وأنه ما كان بدعا من الرسل .
وأمر النبيء صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم يؤذن بأن الله زوى إليه فضيلة من فضائلهم التي اختص كل واحد بها ، سواء ما اتفق منه واتحد ، أو اختلف وافترق ، فإنما يقتدى بما أطلعه الله عليه من فضائل الرسل وسيرهم ، وهو الخلق الموصوف بالعظيم في قوله تعالى
وإنك لعلى خلق عظيم .
[ ص: 357 ] ويشمل هداهم ما كان منه راجعا إلى أصول الشرائع ، وما كان منه راجعا إلى زكاء النفس وحسن الخلق . وأما ما كان منه تفاريع عن ذلك وأحكاما جزئية من كل ما أبلغه الله إياه بالوحي ولم يأمره باتباعه في الإسلام ولا بين له نسخه ، فقد اختلف علماؤنا في أن الشرائع الإلهية السابقة هل تعتبر أحكامها من شريعة الإسلام إذا أبلغها الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجعل في شريعته ما ينسخها .
وأرى أن أصل الاستدلال لهذا أن الله تعالى إذا ذكر في كتابه أو أوحى إلى رسوله عليه الصلاة والسلام حكاية حكم من الشرائع السابقة في مقام التنويه بذلك والامتنان ، ولم يقارنه ما يدل على أنه شرع للتشديد على أصحابه عقوبة لهم ، ولا ما يدل على عدم العمل به ، فإن ذلك يدل على أن الله تعالى يريد من المسلمين العمل بمثله إذا لم يكن من أحكام الإسلام ما يخالفه ولا من أصوله ما يأباه ، مثل أصل التيسير ولا يقتضي القياس على حكم إسلامي ما يناقض حكما من شرائع من قبلنا . ولا حجة في الآيات التي فيها أمر النبيء صلى الله عليه وسلم باتباع من قبله مثل هذه الآية ، ومثل قوله تعالى
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ومثل قوله تعالى
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ، لأن المقصود من ذلك أصول الديانة وأسس التشريع التي لا تختلف فيها الشرائع ، فمن استدل بقوله تعالى فبهداهم اقتده فاستدلاله ضعيف . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في المستصفى : أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية على الوحدانية والصفات ؛ لأنه تعالى أمره بالاقتداء بهداهم ، فلو كان المراد بالهدى شرائعهم لكان أمرا بشرائع مختلفة وناسخة ومنسوخة ، فدل أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم ا هـ . ومعنى هذا أن الآية لا تقوم حجة على المخالف فلا مانع من أن يكون فيها استئناس لمن رأى
حجية شرع من قبلنا على الصفات التي ذكرتها آنفا . وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في تفسير سورة ص
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341735عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال : سألت ابن [ ص: 358 ] عباس من أين سجدت ( أي من أي دليل أخذت أن تسجد في هذه الآية ، يريد أنها حكاية عن سجود داود وليس فيها صيغة أمر السجود ) فقال : أوما تقرأ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فكان داود ممن أمر نبيئكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله .
والمذاهب في هذه المسألة أربعة : المذهب الأول مذهب
مالك فيما حكاه
ابن بكير وعبد الوهاب والقرافي ونسبوه إلى أكثر أصحاب
مالك : أن شرائع من قبلنا تكون أحكاما لنا ، لأن الله أبلغها إلينا . والحجة على ذلك ما يثبت في الصحاح من
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341736أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الربيع بنت النضر حين كسرت ثنية جارية عمدا أن تكسر ثنيتها فراجعته أمها وقالت : والله لا تكسر ثنية الربيع فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الله القصاص ، وليس في كتاب الله حكم القصاص في السن إلا ما حكاه عن شرع التوراة بقوله
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى قوله
والسن بالسن . وما في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341737من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول في كتابه أقم الصلاة لذكري . وإنما قاله الله حكاية عن خطابه
لموسى عليه السلام ، وبظاهر هذه الآية لأن الهدى مصدر مضاف فظاهره العموم ، ولا يسلم كون السياق مخصصا له كما ذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي . ونقل علماء المالكية عن أصحاب
أبي حنيفة مثل هذا . وكذلك نقل عنهم
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم في كتابه " الإعراب في الحيرة والالتباس الواقعين في مذاهب أهل الرأي والقياس . وفي توضيح صدر الشريعة حكايته عن جماعة من أصحابهم ولم يعينه . ونقله
القرطبي عن كثير من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وهو منقول في كتب الحنفية عن عامة أصحاب الشافعي .
المذهب الثاني : ذهب أكثر الشافعية والظاهرية : أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا . واحتجوا بقوله تعالى
[ ص: 359 ] لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ونسب
القرطبي هذا القول للكثير من أصحاب
مالك وأصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وفي توضيح صدر الشريعة نسبة مثل هذا القول لجماعة من أصحابهم .
الثالث : إنما يلزم الاقتداء بشرع
إبراهيم عليه السلام لقوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا . ولم أقف على تعيين من نسب إليه هذا القول .
الرابع : لا يلزم إلا اتباع شريعة
عيسى لأنها آخر الشرائع نسخت ما قبلها . ولم أقف على تعيين صاحب هذا القول . قال
ابن رشد في المقدمات : وهذا أضعف الأقوال .
والهاء في قوله " اقتده " ساكنة عند جمهور القراء ، فهي هاء السكت التي تجلب عند الوقف على الفعل المعتل اللام إذا حذفت لامه للجازم ، وهي تثبت في الوقف وتحذف في الوصل ، وقد ثبتت في المصحف ؛ لأنهم كانوا يكتبون أواخر الكلم على مراعاة حال الوقف . وقد أثبتها جمهور القراء في الوصل ، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف وهو وارد في الكلام الفصيح . والأحسن للقارئ أن يقف عليها جريا على الأفصح ، فجمهور القراء أثبتوها ساكنة ما عدا رواية
هشام عن
ابن عامر فقد حركها بالكسر ، ووجه
أبو علي الفارسي هذه القراءة بأنها تجعل الهاء ضمير مصدر ( اقتد ) ، أي اقتد الاقتداء ، وليست هاء السكت ، فهي كالهاء في قوله تعالى عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين أي لا أعذب ذلك العذاب أحدا . وقرأ
حمزة ، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، وخلف ، بحذف الهاء في حالة الوصل على القياس الغالب .