ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون .
عطفت جملة
ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت على جملة
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا لأن هذه وعيد بعقاب لأولئك الظالمين المفترين على الله والقائلين أوحي إلينا والقائلين
سأنزل مثل ما أنزل الله .
فـ الظالمون في قوله
ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت يشمل أولئك ويشمل جميع الظالمين المشركين ، ولذلك فالتعريف في الظالمون تعريف الجنس المفيد للاستغراق .
والخطاب في ترى للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كل من تأتى منه الرؤية فلا يختص به مخاطب .
ثم الرؤية المفروضة يجوز أن يراد بها رؤية البصر إذا كان الحال المحكي
[ ص: 377 ] من أحوال يوم القيامة ، وأن تكون علمية إذا كانت الحالة المحكية من أحوال النزع وقبض أرواحهم عند الموت .
ومفعول ترى محذوف دل عليه الظرف المضاف . والتقدير : ولو ترى الظالمين إذ هم في غمرات الموت ، أي وقتهم في غمرات الموت ، ويجوز جعل ( إذ ) اسما مجردا عن الظرفية فيكون هو المفعول كما في قوله تعالى
واذكروا إذ كنتم قليلا فيكون التقدير ، ولو ترى زمن الظالمون في غمرات الموت . ويتعين على هذا الاعتبار جعل الرؤية علمية لأن الزمن لا يرى .
والمقصود من هذا الشرط تهويل هذا الحال ، ولذلك حذف جواب ( لو ) كما هو الشأن في مقام التهويل . ونظائره كثيرة في القرآن . والتقدير : لرأيت أمرا عظيما .
والغمرة - بفتح الغين - ما يغمر أي يغم من الماء فلا يترك للمغمور مخلصا . وشاعت استعارتها للشدة تشبيها بالشدة الحاصلة للغريق حين يغمره الوادي أو السيل حتى صارت الغمرة حقيقية عرفية في الشدة الشديدة .
وجمع الغمرات يجوز أن يكون لتعدد الغمرات بعدد الظالمين فتكون صيغة الجمع مستعملة في حقيقتها . ويجوز أن يكون لقصد المبالغة في تهويل ما يصيبهم بأنه أصناف من الشدائد هي لتعدد أشكالها وأحوالها لا يعبر عنها باسم مفرد . فيجوز أن يكون هذا وعيدا بعذاب يلقونه في الدنيا في وقت النزع . ولما كان للموت سكرات جعلت غمرة الموت غمرات .
و في للظرفية المجازية للدلالة على شدة ملابسة الغمرات لهم حتى كأنها ظرف يحويهم ويحيط بهم .
فالموت على هذا الوجه مستعمل في معناه الحقيقي ، وغمراته هي آلام النزع .
[ ص: 378 ] وتكون جملة
أخرجوا أنفسكم حكاية قول الملائكة لهم عند قبض أرواحهم . فيكون إطلاق الغمرات مجازا مفردا ويكون الموت حقيقة ، ومعنى بسط اليد تمثيلا للشدة في انتزاع أرواحهم ولا بسط ولا أيدي . والأنفس بمعنى الأرواح ، أي أخرجوا أرواحكم من أجسادكم ، أي هاتوا أرواحكم ، والأمر للإهانة والإرهاق إغلاظا في قبض أرواحهم ولا يتركون لهم راحة ولا يعاملونهم بلين ، وفيه إشارة إلى أنهم يجزعون فلا يلفظون أرواحهم وهو على هذا الوجه وعيد بالآلام عند النزع جزاء في الدنيا على شركهم ، وقد كان المشركون في شك من البعث فتوعدوا بما لا شك فيه ، وهو حال قبض الأرواح بأن الله يسلط عليهم ملائكة تقبض أرواحهم بشدة وعنف وتذيقهم عذابا في ذلك . وذلك الوعيد يقع من نفوسهم موقعا عظيما ؛ لأنهم كانوا يخافون شدائد النزع وهو كقوله تعالى
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم الآية ، وقوله
أخرجوا أنفسكم على هذا صادر من الملائكة .
ويجوز أن يكون هذا وعيدا بما يلاقيه المشركون من شدائد العذاب يوم القيامة لمناسبة قوله بعد
ولقد جئتمونا فرادى ; فغمرات الموت تمثيل لحالهم يوم الحشر في منازعة الشدائد وأهوال القيامة بحال منهم في غمرات الموت وشدائد النزع ، فالموت تمثيل وليس بحقيقة . والمقصود من التمثيل تقريب الحالة ، وإلا فإن أهوالهم يومئذ أشد من غمرات الموت ولكن لا يوجد في المتعارف ما هو أقصى من هذا التمثيل دلالة على هول الألم . وهذا كما يقال : وجدت ألم الموت ، وقول
أبي قتادة في وقعة
حنين فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=14062الحارث بن هشام المخزومي :
وشممت ريح الموت من تلقائهم في مأزق والخيل لم تتبدد
وجملة
والملائكة باسطوا أيديهم حال ، أي والملائكة مادون أيديهم
[ ص: 379 ] إلى المشركين ليقبضوا عليهم ويدفعوهم إلى الحساب على الوجه الثاني ، أو ليقبضوا أرواحهم على الوجه الأول ، فيكون بسط الأيدي حقيقة بأن تتشكل الملائكة لهم في أشكال في صورة الآدميين . ويجوز أن يكون بسط الأيدي كناية عن المس والإيلام ، كقوله
لئن بسطت إلي يدك لتقتلني .
وجملة
أخرجوا أنفسكم مقول لقول محذوف . وحذف القول في مثله شائع ، والقول على هذا من جانب الله تعالى . والتقدير : نقول لهم : أخرجوا أنفسكم ، والأنفس بمعنى الذوات . والأمر للتعجيز ، أي أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم ، والإخراج مجاز في الإنقاذ والإنجاء ؛ لأن هذا الحال قبل دخولهم النار . ويجوز إبقاء الإخراج على حقيقته إن كان هذا الحال واقعا في حين دخولهم النار .
والتعريف في اليوم للعهد وهو يوم القيامة الذي فيه هذا القول ، وإطلاق اليوم عليه مشهور ، فإن حمل الغمرات على النزع عند الموت ، فاليوم مستعمل في الوقت ، أي وقت قبض أرواحهم .
وجملة
اليوم تجزون إلخ . استئناف وعيد ، فصلت للاستقلال والاهتمام ، وهي من قول الملائكة .
و تجزون تعطون جزاء ، والجزاء هو عوض العمل وما يقابل به من أجر أو عقوبة . قال تعالى
جزاء وفاقا ، وفي المثل : المرء مجزي بما صنع إن خيرا فخير وإن شرا فشر . يقال : جزاه يجزيه فهو جاز . وهو يتعدى بنفسه إلى الشيء المعطى جزاء ، ويتعدى بالباء إلى الشيء المكافأ عنه ، كما في هذه الآية . ولذلك كانت الباء في قوله تعالى في سورة يونس
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها متأولا على معنى الإضافة البيانية . أي جزاؤه سيئة ، وأن مجرور الباء هو السيئة المجزى عنها ، كما اختاره
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني . وقال
الأخفش : الباء فيه زائدة لقوله تعالى
وجزاء سيئة سيئة مثلها . ويقال : جازى بصيغة المفاعلة . قال
الراغب : ولم يجئ في القرآن : جازى .
[ ص: 380 ] والهون : الهوان ، وهو الذل . وفسره
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج بالهوان الشديد ، وتبعه صاحب الكشاف ، ولم يقله غيرهما من علماء اللغة . وكلام أهل اللغة يقتضي أن الهون مرادف الهوان ، وقد قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود اليوم تجزون عذاب الهوان .
وإضافة العذاب إلى الهون لإفادة ما تقتضيه الإضافة من معنى الاختصاص والملك ، أي العذاب المتمكن في الهون الملازم له .
والباء في قوله
بما كنتم تقولون باء العوض لتعدية فعل تجزون إلى المجزي عنه . ويجوز جعل الباء للسببية ، أي تجزون عذاب الهون بسبب قولكم ، ويعلم أن الجزاء على ذلك ، و ما مصدرية . ثم إن كان هذا القول صادرا من جانب الله تعالى فذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار لقصد التهويل . والأصل بما كنتم تقولون علي .
وضمن تقولون معنى تكذبون ، فعلق به قوله على الله ، فعلم أن هذا القول كذب على الله كقوله تعالى
ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية ، وبذلك يصح تنزيل فعل تقولون منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول لأن المراد به أنهم يكذبون ، ويصح جعل غير الحق مفعولا لـ تقولون ، وغير الحق هو الباطل ، ولا تكون نسبته إلى الله إلا كذبا .
وشمل
بما كنتم تقولون الأقوال الثلاثة المتقدمة في قوله
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا إلى قوله
مثل ما أنزل الله وغيرها .
و غير الحق حال من ما الموصولة أو صفة لمفعول مطلق أو هو المفعول به لـ تقولون .
وقوله
وكنتم عن آياته عطف على
كنتم تقولون . أي وباستكباركم عن آياته . والاستكبار : الإعراض في قلة اكتراث ، فبهذا المعنى يتعدى إلى الآيات ، أو أريد من الآيات التأمل فيها فيكون الاستكبار على حقيقته ، أي تستكبرون عن التدبر في الآيات وترون أنفسكم أعظم من صاحب تلك الآيات .
[ ص: 381 ] وجواب " لو " محذوف لقصد التهويل . والمعنى : لرأيت أمرا مفظعا . وحذف جواب ( لو ) في مثل هذا المقام شائع في القرآن . وتقدم عند قوله تعالى
ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب في سورة البقرة .