اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل .
استئناف في خطاب النبيء عليه الصلاة والسلام لأمره بالإعراض عن بهتان المشركين وأن لا يكترث بأقوالهم ، فابتداؤه بالأمر باتباع ما أوحي إليه يتنزل منزلة المقدمة للأمر بالإعراض عن المشركين ، وليس هو المقصد الأصلي من الغرض المسوق له الكلام ، لأن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه أمر واقع بجميع معانيه ; فالمقصود من الأمر الدوام على اتباعه . والمعنى : أعرض عن المشركين اتباعا لما أنزل إليك من ربك .
والمراد بما أوحي إليه : القرآن .
والاتباع في الأصل اقتفاء أثر الماشي ، ثم استعمل في العمل بمثل عمل الغير ، كما في قوله
والذين اتبعوهم بإحسان . ثم استعمل في امتثال
[ ص: 424 ] الأمر والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار ، ويتعدى فعله إلى ذات المتبع فيقال : اتبعت فلانا بهذه المعاني الثلاثة وهو على حذف مضاف في جميع ذلك ؛ لأن الاتباع لا يتعلق بالذات .
وإطلاق الاتباع بمعنى الائتمار شائع في القرآن لأنه جاء بالأمر والنهي وأمر الناس باتباعه ، واستعمل أيضا في معنى الملازمة على سبيل المجاز المرسل ؛ لأن من يتبع أحدا يلازمه . ومنه سمي الرئي من الجن في خرافات العرب تابعة ، ومنه سمي من لازم الصحابي وروى عنه تابعيا .
فيجوز أن يكون الاتباع في الآية مرادا به دوام الامتثال لما أمر به القرآن من الإعراض عن أذى المشركين وعنادهم ، فالاتباع المأمور به اتباع في شيء مخصوص ، وهذا مأمور به غير مرة ، فالأمر بالفعل مستمر في الأمر بالدوام عليه .
ويجوز أن يكون أمرا بملازمة الدعوة إلى الله والإعلان بها ودعاء المشركين إلى التوحيد والإيمان ، وأن لا يعتريه في ذلك لين ولا هوادة حتى لا يكون لبذاءتهم وتكذيبهم إياه تأثير على نفسه يوهن دعوتهم والحرص على إيمانهم ، واعتقاد أن محاولة إيمانهم لا جدوى لها . فالمراد بما أوحي إليه ما أوحي من القرآن خطابا للمشركين ، أو أمرا بدعوتهم للإسلام وعدم الانقطاع عن ذلك ، فيكون الكلام شدا لساعد النبيء صلى الله عليه وسلم في مقامات دعوته إلى الله ، وهذا هو المناسب لقوله
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله كما سنبينه . وقد تقدم شيء من هذا آنفا عند قوله تعالى
إن أتبع إلا ما يوحى إلي .
وليس المراد من الأمر بالاتباع الأمر باتباع أوامر القرآن ونواهيه مطلقا ، لأنه لا مناسبة له بهذا السياق ، وفي الإتيان بلفظ ربك دون اسم الجلالة تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وتلطف معه .
[ ص: 425 ] وجملة
لا إله إلا هو معترضة ، والمقصود منها إدماج التذكير بالوحدانية لزيادة تقريرها وإغاظة المشركين .
والمراد بالإعراض عن المشركين الإعراض عن مكابرتهم وأذاهم لا الإعراض عن دعوتهم ، فإن الله لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقطع الدعوة لأي صنف من الناس ، وكل آية فيها الأمر بالإعراض عن المشركين فإنما هو إعراض عن أقوالهم وأذاهم ، ألا ترى كل آية من هذه الآيات قد تلتها آيات كثيرة تدعو المشركين إلى الإسلام والإقلاع عن الشرك كقوله تعالى في سورة النساء
فأعرض عنهم وعظهم وقد تقدم .
وقوله
ولو شاء الله ما أشركوا عطف على جملة "
وأعرض عن المشركين " . وهذا تلطف مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإزالة لما يلقاه من الكدر من استمرارهم على الشرك وقلة إغناء آيات القرآن ونذره في قلوبهم ، فذكره الله بأن الله قادر على أن يحول قلوبهم فتقبل الإسلام بتكوين آخر ، ولكن الله أراد أن يحصل الإيمان ممن يؤمن بالأسباب المعتادة في الإرشاد والاهتداء ؛ ليميز الله الخبيث من الطيب وتظهر مراتب النفوس في ميادين التلقي ، فأراد الله أن تختلف النفوس في الخير والشر اختلافا ناشئا عن اختلاف كيفيات الخلقة والخلق والنشأة والقبول ، وعن مراتب اتصال العباد بخالقهم ورجائهم منه . فالمشركون بلغوا إلى حضيض الشرك بأسباب ووسائل متسلسلة مترتبة خلقية ، وخلقية ، واجتماعية ، تهيأت في أزمنة وأحوال هيئتها لهم ، فلما بعث الله إليهم المرشد كان إصغاؤهم إلى إرشاده متفاوتا على تفاوت صلابة عقولهم في الضلال وعراقتهم فيه ، وعلى تفاوت إعداد نفوسهم للخير وجموحهم عنه ، ولم يجعل الله إيمان الناس حاصلا بخوارق العادات ولا بتبديل خلق العقول ، وهذا هو القانون في معنى مثل هذه الآية ، فهذا معنى انتفاء مشيئة الله في هذا المقام المراد به تطمين قلب الرسول عليه الصلاة والسلام وتذكيره بحقائق الأحوال وليس في مثل هذا عذر لهم
[ ص: 426 ] ولا لأمثالهم من العصاة ، ولذلك رد الله عليهم الاعتذار بمثل هذا في قوله في الآية الآتية
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا الآية . وفي قوله
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون في سورة الزخرف ؛ لأن هذه حقيقة كاشفة عن الواقع لا تصلح عذرا لمن طلب منهم أن لا يكونوا في عداد الذين لم يشأ الله أن يرشدهم ، قال تعالى
أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم .
ومفعول المشيئة محذوف دل عليه جواب ( لو ) على الطريقة المعروفة . والتقدير : ولو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا . وتقدم عند قوله تعالى
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى في هذه السورة .
وقوله
وما جعلناك عليهم حفيظا تذكير وتسلية ليزيح عنه كرب إعراضهم عن الإسلام ؛ لأن ما يحصل له من الكدر لإعراض قومه عن الإسلام يجعل في نفسه انكسارا كأنه انكسار من عهد إليه بعمل فلم يتسن له ما يريده من حسن القيام ، فذكره الله تعالى بأنه قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة وأنه لم يبعثه مكرها لهم ليأتي بهم مسلمين ، وإنما بعثه مبلغا لرسالته فمن آمن فلنفسه ومن كفر فعليها .
والحفيظ : القيم الرقيب ، أي لم نجعلك رقيبا على تحصيل إيمانهم ، فلا يهمنك إعراضهم عنك وعدم تحصيل ما دعوتهم إليه ؛ إذ لا تبعة عليك في ذلك ، فالخبر مسوق مساق التذكير والتسلية ، لا مساق الإفادة ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن الله ما جعله حفيظا على تحصيل إسلامهم إذ لا يجهل الرسول ما كلف به .
وكذلك قوله
وما أنت عليهم بوكيل تهوين على نفس الرسول عليه الصلاة والسلام بطريقة التذكير لينتفي عنه الغم الحاصل له من عدم إيمانهم .
[ ص: 427 ] فإن أريد ما أنت بوكيل منا عليهم كان تتميما لقوله
فما أرسلناك عليهم حفيظا وإن أريد ما أنت بوكيل منهم على تحصيل نفعهم كان استيعابا لنفي أسباب التبعة عنه في عدم إيمانهم ، يقول : ما أنت بوكيل عليهم وكلوك لتحصيل منافعهم كإيفاء الوكيل بما وكله عليه موكله ، أي فلا تبعة عليك منهم ولا تقصير لانتفاء سببي التقصير ؛ إذ ليس مقامك مقام حفيظ ولا وكيل . فالخبر أيضا مستعمل في التذكير بلازمه لا في حقيقته من إفادة المخبر به ، وعلى كلا المعنيين لابد من تقدير مضاف في قوله عليهم ، أي على نفعهم .
والجمع بين الحفيظ والوكيل هنا في خبرين يؤيد ما قلناه آنفا في قوله تعالى
وما أنا عليكم بحفيظ . من الفرق بين الوكيل والحفيظ فاذكره .