وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون .
عطفت جملة
وأقسموا على جملة
اتبع ما أوحي إليك من ربك الآية . والضمير عائد إلى القوم في قوله
وكذب به قومك وهو الحق مثل الضمائر التي جاءت بعد تلك الآية ومعنى
لئن جاءتهم آية آية غير القرآن . وهذا إشارة إلى شيء من تعللاتهم للتمادي على الكفر بعد ظهور الحجج الدامغة لهم ، كانوا قد تعللوا به في بعض توركهم على الإسلام . فروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري وغيره عن
مجاهد ، nindex.php?page=showalam&ids=14980ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، يزيد بعضهم على بعض :
أن قريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية مثل آية موسى عليه السلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه العيون ، أو مثل آية صالح ، أو مثل آية عيسى عليهم السلام ، وأنهم قالوا لما [ ص: 435 ] سمعوا قوله تعالى إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين أقسموا أنهم إن جاءتهم آية كما سألوا أو كما توعدوا ليوقنن أجمعون ، وأن رسول الله عليه الصلاة والسلام سأل الله أن يأتيهم بآية كما سألوا ، حرصا على أن يؤمنوا . فهذه الآية نازلة في ذلك المعنى لأن هذه السورة جمعت كثيرا من أحوالهم ومحاجاتهم .
والكلام على قوله
وأقسموا بالله جهد أيمانهم هو نحو الكلام على قوله في سورة العقود
أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم .
والأيمان تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم في سورة البقرة .
وجملة
لئن جاءتهم آية إلخ مبينة لجملة
وأقسموا بالله .
واللام في
لئن جاءتهم آية موطئة للقسم ، لأنها تدل على أن الشرط قد جعل شرطا في القسم فتدل على قسم محذوف غالبا ، وقد جاءت هنا مع فعل القسم لأنها صارت ملازمة للشرط الواقع جوابا للقسم فلم تنفك عنه مع وجود فعل القسم . واللام في
ليؤمنن بها لام القسم ، أي لام جوابه .
والمراد بالآية ما اقترحوه على الرسول صلى الله عليه وسلم يعنون بها خارق عادة تدل على أن الله أجاب مقترحهم ليصدق رسوله عليه الصلاة والسلام ، فلذلك نكرت " آية " ، يعني : أية آية كانت من جنس ما تنحصر فيه الآيات في زعمهم .
ومجيء الآية مستعار لظهورها لأن الشيء الظاهر يشبه حضور الغائب فلذلك يستعار له المجيء .
وتقدم بيان معنى الآية واشتقاقها عند قوله تعالى
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون في سورة البقرة .
[ ص: 436 ] ومعنى كون الآيات عند الله أن الآيات من آثار قدرة الله وإرادته ، فأسباب إيجاد الآيات من صفاته ، فهو قادر عليها ، فلأجل ذلك شبهت بالأمور المدخرة عنده ، وأنه إذا شاء إبرازها للناس ، فكلمة " عند " هنا مجاز . استعمل اسم المكان الشديد القرب في معنى الاستبداد والاستئثار مجازا مرسلا ، لأن الاستئثار من لوازم حالة المكان الشديد القرب عرفا ، كقوله تعالى
وعنده مفاتح الغيب .
والحصر بـ " إنما " رد على المشركين ظنهم بأن الآيات في مقدور النبيء صلى الله عليه وسلم إن كان نبيئا ، فجعلوا عدم إجابة النبيء صلى الله عليه وسلم اقتراحهم آية أمارة على انتفاء نبوءته ، فأمره الله أن يجيب بأن الآيات عند الله لا عند الرسول عليه الصلاة والسلام ، والله أعلم بما يظهره من الآيات .
وقوله
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون قرأ الأكثر أنها بفتح همزة ( أن ) . وقرأ
ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وخلف ، وأبو بكر عن
عاصم في إحدى روايتين عن
أبي بكر بكسر همزة ( إن ) .
وقرأ الجمهور
لا يؤمنون بياء الغيبة . وقرأه
ابن عامر ، وحمزة ، وخلف بتاء الخطاب ، وعليه فالخطاب للمشركين .
وهذه الجملة عقبة حيرة للمفسرين في الإبانة عن معناها ونظمها ، ولنأت على ما لاح لنا في موقعها ونظمها وتفسير معناها ، ثم نعقبه بأقوال المفسرين . فالذي يلوح لي أن الجملة يجوز أن تكون الواو فيها واو العطف ، وأن تكون واو الحال .
فأما وجه كونها واو العطف فأن تكون معطوفة على جملة
إنما الآيات عند الله كلام مستقل ، وهي كلام مستقل وجهه الله إلى المؤمنين ، وليست من القول المأمور به النبيء عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى
قل إنما الآيات عند الله .
[ ص: 437 ] والمخاطب بـ
يشعركم الأظهر أنه الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ، وذلك على قراءة الجمهور قوله
لا يؤمنون بياء الغيبة . والمخاطب بـ
يشعركم المشركون على قراءة
ابن عامر ، وحمزة ، وخلف ( لا تؤمنون ) بتاء الخطاب ، وتكون جملة
وما يشعركم من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله في قوله تعالى
قل إنما الآيات عند الله .
وما استفهامية مستعملة في التشكيك والإيقاظ ، لئلا يغرهم قسم المشركين ولا تروج عليهم ترهاتهم ، فإن كان الخطاب للمسلمين فليس في الاستفهام شيء من الإنكار ولا التوبيخ ولا التغليظ ؛ إذ ليس في سياق الكلام ولا في حال المسلمين فيما يؤثر من الأخبار ما يقتضي إرادة توبيخهم ولا تغليظهم ، إذ لم يثبت أن المسلمين طمعوا في حصول إيمان المشركين ، أو أن يجابوا إلى إظهار آية حسب مقترحهم ، وكيف والمسلمون يقرءون قوله تعالى
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية وهي في سورة يونس وهي نازلة قبل سورة الأنعام ، وقد عرف المسلمون كذب المشركين في الدين وتلونهم في اختلاق المعاذير . والمقصود من الكلام تحقيق ذلك عند المسلمين ، وسيق الخبر بصيغة الاستفهام ؛ لأن الاستفهام من شأنه أن يهيئ نفس السامع لطلب جواب ذلك الاستفهام فيتأهب لوعي ما يرد بعده .
والإشعار : الإعلام بمعلوم من شأنه أن يخفى ويدق . يقال : شعر فلان بكذا ، أي علمه وتفطن له ، فالفعل يقتضي متعلقا به بعد مفعوله ويتعين أن قوله
أنها إذا جاءت لا يؤمنون هو المتعلق به ، فهو على تقدير باء الجر . والتقدير : بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ، فحذف الجار مع ( أن ) المفتوحة حذف مطرد .
وهمزة ( أن ) مفتوحة في قراءة الجمهور . والمعنى أمشعر يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ، أي بعدم إيمانهم .
[ ص: 438 ] فهذا بيان المعنى والتركيب ، وإنما العقدة في وجود حرف النفي من قوله
لا يؤمنون لأن
وما يشعركم بمعنى قولهم : ما يدريكم ، ومعتاد الكلام في نظير هذا التركيب أن يجعل متعلق فعل الدراية فيه هو الشيء الذي شأنه أن يظن المخاطب وقوعه ، والشيء الذي يظن وقوعه في مثل هذا المقام هو أنهم يؤمنون لأنه الذي يقتضيه قسمهم
لئن جاءتهم آية ليؤمنن فلما جعل متعلق الشعور نفي إيمانهم كان متعلقا غريبا بحسب العرف في استعمال نظير هذا التركيب .
والذي يقتضيه النظر في
خصائص الكلام البليغ وفروقه أن لا يقاس قوله
وما يشعركم على ما شاع من قول العرب ( ما يدريك ) ، لأن تركيب ما يدريك شاع في الكلام حتى جرى مجرى المثل باستعمال خاص لا يكادون يخالفونه كما هي سنة الأمثال أن لا تغير عما استعملت فيه ، وهو أن يكون اسم ( ما ) فيه استفهاما إنكاريا ، وأن يكون متعلق " يدريك " هو الأمر الذي ينكره المتكلم على المخاطب . فلو قسنا استعمال
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون على استعمال ( ما يدريكم ) لكان وجود حرف النفي منافيا للمقصود ، وذلك مثار تردد علماء التفسير والعربية في محمل ( لا ) في هذه الآية . فأما حين نتطلب وجه العدول في الآية عن استعمال تركيب ( ما يدريكم ) وإلى إيثار تركيب ما يشعركم فإننا نعلم أن ذلك العدول لمراعاة خصوصية في المعدول إليه بأنه تركيب ليس متبعا فيه طريق مخصوص في الاستعمال ، فلذلك فهو جار على ما يسمح به الوضع والنظم في استعمال الأدوات والأفعال ومفاعيلها ومتعلقاتها .
[ ص: 439 ] فلنحمل اسم الاستفهام هنا على معنى التنبيه والتشكيك في الظن ، ونحمل فعل
يشعركم على أصل مقتضى أمثاله من أفعال العلم ، وإذا كان كذلك كان نفي إيمان المشركين بإتيان آية وإثباته سواء في الفرض الذي اقتضاه الاستفهام ، فكان المتكلم بالخيار بين أن يقول : إنها إذا جاءت لا يؤمنون ، وأن يقول : إنها إذا جاءت يؤمنون . وإنما أوثر جانب النفي للإيماء إلى أنه الطرف الراجح الذي ينبغي اعتماده في هذا الظن .
هذا وجه الفرق بين التركيبين . وللفروق في علم المعاني اعتبارات لا تنحصر ولا ينبغي لصاحب علم المعاني غض النظر عنها ، وكثيرا ما بين
عبد القاهر أصنافا منها فليلحق هذا الفرق بأمثاله .
وإن أبيت إلا قياس ما يشعركم على " ما يدريكم " سواء ، كما سلكه المفسرون فاجعل الغالب في استعمال ( ما يدريك ) هو مقتضى الظاهر في استعمال ما يشعركم واجعل تعليق المنفي بالفعل جريا على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة ذلك الإيماء ويسهل الخطب .
وأما وجه كون الواو في قوله
وما يشعركم واو الحال فتكون " ما " نكرة موصوفة بجملة
يشعركم . ومعناها شيء موصوف بأنه يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . وهذا الشيء هو ما سبق نزوله من القرآن ، مثل قوله تعالى
إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ، وكذلك ما جربوه من تلون المشركين في التفصي من ترك دين آبائهم ، فتكون الجملة حالا ، أي والحال أن القرآن والاستقراء أشعركم بكذبهم فلا تطمعوا في إيمانهم لو جاءتهم آية ولا في صدق أيمانهم ، قال تعالى
إنهم لا أيمان لهم . وإني لأعجب كيف غاب عن المفسرين هذا الوجه من جعل ( ما ) نكرة موصوفة في حين إنهم تطرقوا إلى ما هو أغرب من ذلك .
[ ص: 440 ] فإذا جعل الخطاب في قوله
وما يشعركم خطابا للمشركين ، كان الاستفهام للإنكار والتوبيخ ومتعلق فعل
يشعركم محذوفا دل عليه قوله
لئن جاءتهم آية . والتقدير : وما يشعركم أننا نأتيكم بآية كما تريدون .
ولا نحتاج إلى تكلفات تكلفها المفسرون ، ففي الكشاف : أن المؤمنين طمعوا في إيمان المشركين إذا جاءتهم آية وتمنوا مجيئها فقال الله تعالى : وما يدريكم أنهم لا يؤمنون ، أي أنكم لا تدرون أني أعلم أنهم لا يؤمنون . وهو بناء على جعل ما يشعركم مساويا في الاستعمال لقولهم ( ما يدريك ) .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه عن
الخليل : أن قوله تعالى أنها معناه لعلها ، أي لعل آية إذا جاءت لا يؤمنون بها . وقال : تأتى ( أن ) بمعنى " لعل " ، يريد أن في " لعل " لغة تقول : لأن ، بإبدال العين همزة وإبدال اللام الأخيرة نونا ، وأنهم قد يحذفون اللام الأولى تخفيفا كما يحذفونها في قولهم : علك أن تفعل ، فتصير ( أن ) أي ( لعل ) . وتبعه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وبعض أهل اللغة ، وأنشدوا أبياتا .
وعن
الفراء ، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، وأبي علي الفارسي : أن ( لا ) زائدة ، كما ادعوا زيادتها في قوله تعالى
وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون .
وذكر
ابن عطية : أن
أبا علي الفارسي جعل أنها تعليلا لقوله
عند الله أي لا يأتيهم بها لأنها إذا جاءت لا يؤمنون ، أي على أن يكون عند كناية عن منعهم من الإجابة لما طلبوه .
وعلى قراءة
ابن كثير ، وأبي عمرو ، ويعقوب ، وخلف ، وأبي بكر ، في إحدى روايتين عنه ( إنها ) بكسر الهمزة يكون استئنافا . وحذف متعلق
يشعركم لظهوره من قوله
ليؤمنن بها . والتقدير : وما يشعركم بإيمانهم إنهم لا يؤمنون إذا جاءت آية .
وعلى قراءة
ابن عامر ، وحمزة ، وخلف بتاء المخاطب . فتوجيه قراءة
خلف الذي قرأ ( إنها ) بكسر الهمزة ، أن تكون جملة ( أنها إذا جاءت )
[ ص: 441 ] إلخ خطابا موجها إلى المشركين . وأما على قراءة
ابن عامر وحمزة اللذين قرآ " أنها " بفتح الهمزة بأن يجعل ضمير الخطاب في قوله
وما يشعركم موجها إلى المشركين على طريقة الالتفات على اعتبار الوقف على
يشعركم .