وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون
وإنما جيء بالإجمال قبل ظهور البرهان وجيء بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحجاج وهو إجمال الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعي أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن يتبجح عليه بسلطان برهانه ، فإن للحق صولة ، ونظيره قول صاحب
موسى سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة إلى قوله
وما فعلته عن أمري ثم قال
ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا فجاء باسم إشارة البعيد تعظيما للتأويل بعد ظهوره . وهذه طريقة مسلوكة للكتاب والخطباء وهي ترجع إلى قاعدة أخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء كما بينته في كتاب أصول الإنشاء والخطابة ، وأكثر الخطباء يفضى إلى الغرض من خطبته بعد المقدمات والتمهيدات ، وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء فيما ذكرنا تعليما للخلق وجريا على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية ، فإن الملائكة لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين .
و ( كنتم ) في قوله
وما كنتم تكتمون الأظهر أنها زائدة لتأكيد تحقق الكتمان ، فإن الذي يعلم ما اشتد كتمانه يعلم ما لم يحرص على كتمانه ويعلم ظواهر الأحوال بالأولى . وصيغة المضارع في تبدون و تكتمون للدلالة على تجدد ذلك منهم فيقتضي تجدد علم الله بذلك كلما تجدد منهم .
ولبعضهم هنا تكلفات في جعل ( كنتم ) للدلالة على الزمان الماضي وجعل ( تبدون ) للاستقبال ، وتقدير اكتفاء في الجانبين ، أعني وما كنتم تبدون وما تكتمون ، واكتفاء في غيب السماوات والأرض يعني وشهادتهما ، وكل ذلك لا داعي إليه .
وقد جعل الله تعالى
علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشري لخلافته في الأرض دون الملائكة ، لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله تعالى في القيام
[ ص: 419 ] بما أراده من العمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائما مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر ، ولا شك أن هذه
الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ، ولا يصلح لهذا العلم إلا القوة الناطقة وهي قوة التفكير التي أجلى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها ، والتي تستطيع أن تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولا تقف معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى . والملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أعجزهم وضع الأسماء للمسميات وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف لم يكونوا مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم . ولم يكونوا مصادر للشرور التي يتعين صدورها لإصلاح العالم ، فخيريتهم وإن كانت صالحة لاستقامة عالمهم الطاهر لم تكن صالحة لنظام عالم مخلوط ، وحكمة خلطه ظهور منتهى العلم الإلهي كما قال
أبو الطيب :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
والآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب وفي
فضل العلم ولكنها لا تدل على
أفضلية النوع البشري على الملائكة إذ المزية لا تقتضي الأفضلية كما بينه
الشهاب القرافي في الفرق الحادي والتسعين ، فهذه فضيلة من ناحية واحدة ، وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموع الفضائل كما دل عليه حديث
موسى والخضر .
والاستفهام في قوله (
ألم أقل لكم ) إلخ تقريري لأن ذلك القول واقع لا محالة ، والملائكة يعلمون وقوعه ولا ينكرونه . وإنما أوقع الاستفهام على نفي القول لأن غالب الاستفهام التقريري يقحم ما يفيد النفي لقصد التوسيع على المقرر حتى يخيل إليه أنه يسأل عن نفي وقوع الشيء ، فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسع المقرر عليه ذلك ولكنه يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره فلذلك يقرره على نفيه ، فإذا أقر كان إقراره لازما له لا مناص له منه .
فهذا قانون الاستفهام التقريري الغالب عليه وهو الذي تكرر في القرآن
[ ص: 420 ] وبنى عليه صاحب الكشاف معاني آياته التي منها قوله تعالى
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير وتوقف فيه
ابن هشام في مغني اللبيب ورده عليه شارحه . وقد يقع التقرير بالإثبات على الأصل نحو
أأنت قلت للناس وهو تقرير مراد به إبطال دعوى النصارى وقوله
قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم .