إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين
استئناف لتهديد المشركين الذين كانوا يكذبون الإنذار بعذاب الإهلاك فيقولون :
متى هذا الفتح إن كنتم صادقين وذلك ما يؤذن به قوله عقبه :
إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين .
فالخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه التعريض بمن يغفل عن ذلك من المشركين فيكون تهديدا صريحا .
والمعنى : إن يشأ الله يعجل بإفنائكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ممن يؤمن به كما قال :
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم أي : فما إمهاله إياكم إلا لأنه الغني ذو الرحمة .
[ ص: 87 ] جملة الشرط وجوابه خبر ثالث عن المبتدأ ، ومفعول ( يشاء ) محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة .
والإذهاب مجاز في الإعدام كقوله :
وإنا على ذهاب به لقادرون .
والاستخلاف : جعل الخلف عن الشيء ، والخلف : العوض عن شيء فائت ، فالسين والتاء فيه للتأكيد ، و ( ما ) موصولة عامة ؛ أي : ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته ، وهذا تعريض بالاستئصال ؛ لأن ظاهر الضمير يفيد العموم .
والتشبيه في قوله :
كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى ، لا في كون المنشئات مخرجة من بقايا المعدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرية من أنجاهم الله في السفينة مع
نوح عليه السلام ، فيكون الكلام تعريضا بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب .
وكاف التشبيه في محل نصب نيابة عن المفعول المطلق ؛ ؛ لأنها وصف لمحذوف تقديره استخلافا كما أنشأكم ، فإن الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف ، و ( من ) ابتدائية ، ومعنى الذرية واشتقاقها تقدم عند قوله تعالى :
قال ومن ذريتي في سورة البقرة .
ووصف قوم بـ ( آخرين ) للدلالة على المغايرة ؛ أي : قوم ليسوا من قبائل العرب ، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشئ أقواما من أقوام يخالفونهم في اللغة والعوائد والمواطن ، وهذا كناية عن تباعد العصور ، وتسلسل المنشآت ؛ لأن الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلا في أزمنة بعيدة ، فشتان بين أحوال قوم
نوح وبين أحوال العرب المخاطبين ، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة .