كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين
غير أسلوب الحكاية عن أحوال المشركين فأقبل على خطاب المؤمنين بهذه المنة وهذا الحكم ؛ فهذه الجمل معترضة وهي تعريض بتسفيه أحلام المشركين لتحريمهم على أنفسهم ما من الله به عليهم .
والثمر : بفتح الثاء والميم ، وبضمهما ، وقرئ بهما كما تقدم بيانه في نظيرتها .
والأمر للإباحة بقرينة أن الأكل من حق الإنسان الذي لا يجب عليه
[ ص: 120 ] أن يفعله ، فالقرينة ظاهرة ، والمقصود الرد على الذين حجروا على أنفسهم بعض الحرث .
و ( إذا ) مفيدة للتوقيت ؛ لأنها ظرف ؛ أي : حين إثماره ، والمقصود من التقييد بهذا الظرف إباحة الأكل منه عند ظهوره وقبل حصاده تمهيدا لقوله :
وآتوا حقه يوم حصاده أي : كلوا منه قبل أداء حقه ، وهذه رخصة ومنة ؛ لأن العزيمة أن لا يأكلوا إلا بعد إعطاء حقه كيلا يستأثروا بشيء منه على أصحاب الحق ، إلا أن رخص للناس في الأكل توسعة عليهم أن يأكلوا منه أخضر قبل يبسه ؛ لأنهم يستطيبونه كذلك ، ولذلك عقبه بقوله :
ولا تسرفوا كما سيأتي .
وإفراد الضميرين في قوله :
من ثمره إذا أثمر على اعتبار تأويل المعاد بالمذكور .
والأمر في قوله :
وآتوا حقه يوم حصاده خطاب خاص بالمؤمنين كما تقدم ، وهذا الأمر ظاهر في الوجوب بقرينة تسمية المأمور به حقا .
وأضيف الحق إلى ضمير المذكور لأدنى ملابسة ؛ أي : الحق الكائن فيه .
وقد أجمل الحق اعتمادا على ما يعرفونه ، وهو : حق الفقير والقربى والضعفاء والجيرة ، فقد كان العرب إذا جذوا ثمارهم أعطوا منها من يحضر من المساكين والقرابة ، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى :
فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . فلما جاء الإسلام أوجب على المسلمين هذا الحق ، وسماه حقا كما في قوله تعالى :
والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وسماه الله زكاة في آيات كثيرة ولكنه أجمل مقداره وأجمل الأنواع التي فيها الحق ، ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير ، وكان هذا قبل شرع نصبها ومقاديرها ، ثم شرعت الزكاة وبينت السنة نصبها ومقاديرها .
[ ص: 121 ] والحصاد - بكسر الحاء وبفتحها - قطع الثمر والحب من أصوله ، وهو مصدر على وزن الفعال أو الفعال ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال ، وذلك الصرام والجزاز والجداد والقطاع والحصاد ، وربما دخلت اللغة في بعض هذا - أي : اختلفت اللغات فقال بعض القبائل حصاد ؛ بفتح الحاء ، وقال بعضهم حصاد ؛ بكسر الحاء ، فكان فيه فعال وفعال فإذا أرادوا الفعل على فعلت قالوا حصدته حصدا وقطعته قطعا إنما تريد العمل لا انتهاء الغاية .
وقرأه
نافع وابن كثير ، وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وأبو جعفر وخلف بكسر الحاء ، وقرأ
أبو عمرو وعاصم وابن عامر ويعقوب بفتح الحاء .
وقد
فرضت الزكاة في ابتداء الإسلام مع فرض الصلاة ، أو بعده بقليل ؛ لأن افتراضها ضروري لإقامة أود الفقراء من المسلمين ، وهم كثيرون في صدر الإسلام ؛ لأن الذين أسلموا قد نبذهم أهلوهم ومواليهم ، وجحدوا حقوقهم ، واستباحوا أموالهم ، فكان من الضروري أن يسد أهل الجدة والقوة من المسلمين خلتهم ، وقد جاء ذكر الزكاة في آيات كثيرة مما نزل
بمكة مثل سورة المزمل وسورة البينة ، وهي من أوائل سور القرآن ؛ فالزكاة قرينة الصلاة .
وقول بعض المفسرين : الزكاة فرضت
بالمدينة ، يحمل على ضبط مقاديرها بآية
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وهي مدنية ، ثم تطرقوا فمنعوا أن يكون المراد بالحق هنا الزكاة ؛ لأن هذه السور مكية بالاتفاق ، وإنما تلك الآية مؤكدة للوجوب بعد الحلول
بالمدينة ، ولأن المراد منها أخذها من المنافقين أيضا ، وإنما ضبطت الزكاة ، ببيان الأنواع المزكاة ومقدار النصب والمخرج منه ،
بالمدينة ، فلا ينافي ذلك أن أصل وجوبها في
مكة ، وقد حملها
مالك على الزكاة المعينة المضبوطة في رواية
ابن القاسم [ ص: 122 ] وابن وهب عنه وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، nindex.php?page=showalam&ids=9وأنس بن مالك ، nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب ، وجمع من التابعين كثير . ولعلهم يرون الزكاة فرضت ابتداء بتعيين النصب والمقادير ، وحملها
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=12691وابن الحنفية ،
وعلي بن الحسين ،
وعطاء ،
وحماد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ،
ومجاهد على غير الزكاة وجعلوا الأمر للندب ، وحملها
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، والحسن ، nindex.php?page=showalam&ids=16574وعطية العوفي ،
والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ، في رواية عنه ، على صدقة واجبة ثم نسختها الزكاة .
وإنما
أوجب الله الحق في الثمار والحب يوم الحصاد ؛ لأن الحصاد إنما يراد للادخار وإنما يدخر المرء ما يريده للقوت ، فالادخار هو مظنة الغنى الموجبة لإعطاء الزكاة ، والحصاد مبدأ تلك المظنة ، فالذي ليست له إلا شجرة أو شجرتان فإنما يأكل ثمرها مخضورا قبل أن ييبس ، فلذلك رخصت الشريعة لصاحب الثمرة أن يأكل من الثمر إذا أثمر ، ولم توجب عليه إعطاء حق الفقراء إلا عند الحصاد ، ثم إن حصاد الثمار ، وهو جذاذها ، هو قطعها لادخارها ، وأما حصاد الزرع فهو قطع السنبل من جذور الزرع ثم يفرك الحب الذي في السنبل ليدخر ، فاعتبر ذلك الفرك بقية للحصاد ، ويظهر من هذا أن الحق إنما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزبيب والتمر والزرع والزيتون ، من زيته أو من حبه ، بخلاف الرمان والفواكه .
وعلى القول المختار فهذه الآية غير منسوخة ، ولكنها مخصصة ومبينة بآيات أخرى وبما يبينه النبيء صلى الله عليه وسلم ، فلا يتعلق بإطلاقها ، وعن السدي أنها نسخت بآية الزكاة يعني :
خذ من أموالهم صدقة وقد كان المتقدمون يسمون التخصيص نسخا .
وقوله :
ولا تسرفوا عطف على كلوا ؛ أي : كلوا غير مسرفين . والإسراف والسرف : تجاوز الكافي من إرضاء النفس بالشيء المشتهى . وتقدم
[ ص: 123 ] عند قوله تعالى :
ولا تأكلوها إسرافا في سورة النساء ، وهذا إدماج للنهي عن الإسراف ، وهو نهي إرشاد وإصلاح ؛ أي : لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله :
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا .
والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات ، فيرتكب لذلك مذمات كثيرة ، وينتقل من ملذة إلى ملذة فلا يقف عند حد .
وقيل عطف على
وآتوا حقه أي : ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقه فتنفقوا أكثر مما يجب ، وهذا لا يكون إلا في الإنفاق والأكل ونحوه ، فأما بذله في الخير ونفع الناس فليس من السرف ، ولذلك يعد من خطأ التفسير تفسيرها بالنهي عن الإسراف في الصدقة ، وبما ذكروه أن ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة وفرق ثمرها كله ولم يدخل منه شيئا إلى منزله ، وأن الآية نزلت بسبب ذلك .
وقوله :
إنه لا يحب المسرفين استئناف قصد به تعميم حكم
النهي عن الإسراف ، وأكد بـ ( إن ) لزيادة تقرير الحكم ، فبين أن الإسراف من الأعمال التي لا يحبها ، فهو من الأخلاق التي يلزم الانتهاء عنها ، ونفي المحبة مختلف المراتب ، فيعلم أن نفي المحبة يشتد بمقدار قوة الإسراف ، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التحريم ، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلة أخرى والإجمال مقصود .
ولغموض تأويل هذا النهي وقوله :
إنه لا يحب المسرفين تفرقت آراء المفسرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه ، ليعينوه في إسراف حرام ، حتى قال بعضهم : إنها منسوخة ، وقد علمت المنجى من ذلك كله .
[ ص: 124 ] فوجه عدم محبة الله إياهم أن
الإفراط في تناول اللذات والطيبات ، والإكثار من بذل المال في تحصيلها ، يفضي غالبا إلى استنزاف الأموال والشره إلى الاستكثار منها ، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة ، ليخمد بذلك نهمته إلى اللذات ، فيكون ذلك دأبه ، فربما ضاق عليه ماله ، فشق عليه الإقلاع عن معتاده ، فعاش في كرب وضيق ، وربما تطلب المال من وجوه غير مشروعة ، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدنيا أو في الآخرة ، ثم إن ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة ، وينشأ عن ذلك ملام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة .
فأما
كثرة الإنفاق في وجوه البر فإنها لا توقع في مثل هذا ؛ لأن المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبة لذاته ؛ لأن داعي الحكمة قابل للتأمل والتحديد بخلاف داعي الشهوة ، ولذلك قيل في الكلام الذي يصح طردا وعكسا : لا خير في السرف ولا سرف في الخير ، وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف :
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين وقول النبيء صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341073ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال .