ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين
الواو من قوله : ويا
آدم عاطفة على جملة :
اخرج منها مذءوما مدحورا الآية ، فهذه الواو من المحكي لا من الحكاية ، فالنداء والأمر من جملة المقول المحكي يقال : أي قال الله لإبليس اخرج منها وقال
لآدم :
ويا آدم اسكن ، وهذا من عطف المتكلم بعض كلامه على بعض ، إذا كان لبعض كلامه اتصال وتناسب مع بعضه الآخر ، ولم يكن أحد الكلامين موجها إلى الذي وجه إليه الكلام الآخر ، مع اتحاد مقام الكلام ، كما يفعل المتكلم مع متعددين في مجلس واحد فيقبل على كل مخاطب منهم بكلام يخصه ، ومنه قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - في قضية الرجل والأنصاري الذي كان ابن الرجل عسيفا عليه : والذي نفسي بيده
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341781لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل أما الغنم والجارية فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها ومن أسلوب هذه الآية ما في قوله تعالى
إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك حكاية لكلام
العزيز ، أي
العزيز عطف خطاب امرأته على خطابه
ليوسف .
[ ص: 53 ] فليست الواو في قوله :
ويا آدم اسكن بعاطفة على أفعال القول التي قبلها حتى يكون تقدير الكلام : وقلنا يا
آدم اسكن ، لأن ذلك يفيد النكت التي ذكرناها ، وذلك في حضرة واحدة كان فيها
آدم والملائكة وإبليس حضورا .
وفي توجيه الخطاب
لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس بعد طرده زيادة إهانة ، لأن إعطاء النعم لمرضي عليه في حين عقاب من استأهل العقاب زيادة حسرة على المعاقب ، وإظهار للتفاوت بين مستحق الإنعام ومستحق العقوبة فلا يفيد الكلام من المعاني ما أفاده العطف على المقول المحكي ، ولأنه لو أريد ذلك لأعيد فعل القول . ثم إن كان
آدم خلق في الجنة ، فكان مستقرا بها من قبل ، فالأمر في قوله : اسكن إنما هو أمر تقرير : أي ابق في الجنة ، وإن كان
آدم قد خلق خارج الجنة فالأمر للإذن تكريما له ، وأيا ما كان ففي هذا الأمر ، بمسمع من إبليس ، مقمعة لإبليس ، لأنه إن كان إبليس مستقرا في الجنة من قبل فالقمع ظاهر إذ أطرده الله وأسكن الذي تكبر هو عن السجود إليه في المكان المشرف الذي كان له قبل تكبره ، وإن لم يكن إبليس ساكنا في الجنة قبل فإكرام الذي احتقره وترفع عليه قمع له ، فقد دل موقع هذا الكلام ، في هذه السورة ، على معنى عظيم من قمع إبليس زائد على ما في آية سورة البقرة ، وإن كانتا متماثلتين في اللفظ ، ولكن هذا المعنى البديع استفيد من الموقع وهذا من بدائع إعجاز القرآن .
ووجد إيثار هذه الآية بهذه الخصوصية إن هذا الكلام مسوق إلى المشركين الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله ، فأما ما في سورة البقرة فإنه لموعظة
بني إسرائيل ، وهم ممن يحذر الشيطان ولا يتبع خطواته .
والنداء للإقبال على
آدم والتنويه بذكره في ذلك الملأ . والإتيان بالضمير المنفصل بعد الأمر ، لقصد زيادة التنكيل بإبليس لأن ذكر ضميره في مقام العطف يذكر غيره بأنه ليس مثله ، إذ الضمير وإن كان من قبيل اللقب وليس له مفهوم مخالفة فإنه قد يفيد الاحتراز عن غير صاحب الضمير بالقرينة على طريقة التعريض ولا يمنع من هذا الاعتبار في الضمير كون إظهاره لأجل تحسين أو تصحيح العطف على الضمير المرفوع المستتر ، لأن
[ ص: 54 ] تصحيح أو تحسين العطف يحصل بكل فاصل بين الفعل الرافع المستتر وبين المعطوف ، لا خصوص الضمير ، كأن يقال : ويا
آدم اسكن الجنة وزوجك ، فما اختير الفصل بالضمير المنفصل إلا لما يفيد من التعريض بغيره . وهذه نكتة فاتني العلم بها في آية سورة البقرة فضمها إليها أيضا .
والكلام على قوله
اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين يعلم مما مضى من الكلام على نظيره من سورة البقرة .
سوى أن الذي وقع في سورة البقرة وكلا بالواو وهنا بالفاء ، والعطف بالواو أعم ، فالآية هنا أفادت أن الله تعالى أذن
آدم بأن يتمتع بثمار الجنة عقب أمره بسكنى الجنة . وتلك منة عاجلة تؤذن بتمام الإكرام ، ولما كان ذلك حاصلا في تلك الحضرة ، وكان فيه زيادة تنغيص لإبليس ، الذي تكبر وفضل نفسه عليه ، كان الحال مقتضيا إعلام السامعين به في المقام الذي حكي فيه الغضب على إبليس وطرده ، وأما آية البقرة فإنما أفادت السامعين أن الله امتن على
آدم بمنة سكنى الجنة والتمتع بثمارها ، لأن المقام هنالك لتذكير
بني إسرائيل بفضل
آدم وبذنبه وتوبته ، والتحذير من كيد الشيطان ذلك الكيد الذي هم واقعون في شيء منه عظيم .
على أن آية البقرة لم تخل عن ذكر ما فيه تكرمة له وهو قوله : رغدا لأنه مدح للممتن به أو دعاء
لآدم . فحصل من مجموع الآيتين عدة مكارم
لآدم ، وقد وزعت على عادة القرآن في توزيع أغراض القصص على مواقعها ، ليحصل تجديد الفائدة ، تنشيطا للسامع ، وتفننا في أساليب الحكاية ، لأن الغرض الأهم من القصص في القرآن إنما هو العبرة والموعظة والتأسي .
وقوله :
ولا تقربا هذه الشجرة أشد في التحذير من أن ينهى عن الأكل منها ، لأن النهي عن قربانها سد لذريعة الأكل منها وقد تقدم نظيره في سورة البقرة .
[ ص: 55 ] والنهي عن قربان شجرة خاصة من شجر الجنة : يحتمل أن يكون نهي ابتلاء ، جعل الله شجرة مستثناة من شجر الجنة من الإذن بالأكل منها تهيئة للتكليف بمقاومة الشهوة لامتثال النهي . فلذلك جعل النهي عن تناولها محفوفة بالأشجار المأذون فيها ليلتفت إليها ذهنهما بتركها ، وهذا هو الظاهر ليتكون مختلف القوى العقلية في عقل النوع بتأسيسها في أصل النوع ، فتنتقل بعده إلى نسله . وذلك من اللطف الإلهي في تكوين النوع ومن مظاهر حقيقة الربوبية والمربوبية . حتى تحصل جميع القوى بالتدريج فلا يشق وضعها دفعة على قابلية العقل ، وقد دلت الآيات على أن
آدم لما ظهر منه خاطر المخالفة أكل من الشجرة المنهي عنها ، فأعقبه الأكل حدوث خاطر الشعور بما فيه من نقائص أدركها بالفطرة ، فمعناه أنه زالت منه البساطة والسذاجة . ويحتمل أن يكون ذلك لخصوصية في طبع تلك الشجرة أن تثير في النفس علم الخير والشر كما جاء في التوراة أن الله نهاه عن أكل شجرة معرفة الخير والشر ، وهذا - عندي - بعيد ، وإنما حكى الله لنا هيئة تطور العقل البشري في خلقة أصل النوع البشري نظير صنعه في قوله :
وعلم آدم الأسماء كلها .
والإشارة إلى شجرة مشاهدة وقد رويت روايات ضعيفة في تعيين نوعها وذلك مما تقدم في سورة البقرة .
وانتصب : فتكونا على جواب النهي والكون من الظالمين متسبب على القرب المنهي عنه ، لا على النهي ، وذلك هو الأصل في النصب في جواب النهي كجواب النفي ، أن يعتبر التسبب على الفعل المنفي أو المنهي ، بخلاف الجزم في جواب النهي فإنه إنما يجزم المسبب على إنشاء النهي لا على الفعل المنهي ، والفرق بينهما : أن النصب على اعتبار التسبب والتسبب ينشأ عن الفعل لا عن الإخبار والإنشاء ، بخلاف الجزم ، فإنه على اعتبار الجواب ، تشبيها بالشرط ، فاعتبر فيه معنى إنشاء النهي تشبيها للإنشاء بالاشتراط .
[ ص: 56 ] والمراد بـ " الظالمين " : الذين يحق عليهم وصف الظلم : إما لظلمهم أنفسهم وإلقائها في العواقب السيئة ، وإما لاعتدائهم على حق غيرهم فإن العصيان ظلم لحق الرب الواجب طاعته .