قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ ص: 68 ] طوى القرآن هنا ذكر التوبة على
آدم : لأن المقصود من القصة في هذه السورة التذكير بعداوة الشيطان وتحذير الناس من اتباع وسوسته ، وإظهار ما يعقبه اتباعه من الخسران والفساد ، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التوبة للاقتصار على أسباب الخسارة ، وقد ذكرت التوبة في آية البقرة المقصود منها بيان فضل
آدم وكرامته عند ربه ، ولكل مقام مقال .
والخطاب
لآدم وزوجه وإبليس .
والأمر تكويني ، وبه صار
آدم وزوجه وإبليس من سكان الأرض .
وجملة
بعضكم لبعض عدو في موضع الحال من ضمير : اهبطوا المرفوع بالأمر التكويني فهذه الحال أيضا تفيد معنى تكوينيا وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض ، وهذا التكوين تأكدت به العداوة الجبلية السابقة فرسخت وزادت ، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس ، فأحد البعضين هو
آدم وزوجه ، والبعض الآخر هو إبليس ، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينية بين أصلي الجنسين ، كانت موروثة في نسليهما ، والمقصود
تذكير بني آدم بعداوة الشيطان لهم ولأصلهم ليتهموا كل وسوسة تأتيهم من قبله ، وقد نشأت هذه العداوة عن حسد إبليس ، ثم سرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود ، فهي منبثة في التفكير والجسد ، ومقتضية تمام التنافر بين النوعين .
وإذ قد كانت نفوس الشياطين داعية إلى الشر بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير ، ولكنه معرض لوسوسة الشياطين ، فيقع في شذوذ عن أصل فطرته ، وفي هذا ما يكون مفتاحا لمعنى كون الناس يولدون على الفطرة ، وكون الإسلام دين الفطرة ، وكون الأصل في الناس الخير . أما كون الأصل في الناس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشذوذ ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي ، لأن أحوال الوقوع في ذلك الشذوذ مبهمة فوجب التبصر في جميع الأحوال .
[ ص: 69 ] وعطفت جملة :
ولكم في الأرض مستقر على جملة :
بعضكم لبعض عدو .
والمستقر مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى :
لكل نبإ مستقر وقوله
فمستقر ومستودع في سورة الأنعام .
والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأن قوله " ومتاع " يصد عن ذلك ولأن الشياطين والجن لا يدفنون في الأرض .
والمتاع والتمتع : نيل الملذات والمرغوبات غير الدائمة ، ويطلق المتاع على ما يتمتع به وينتفع به من الأشياء ، وتقدم في قوله تعالى :
لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم في سورة النساء .
والحين المدة من الزمن ، طويلة أو قصيرة ، وقد نكر هنا ولم يحدد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد ، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللذات ، وفيه يحصل بقاء اللذات غير متفرقة ولا متلاشية ولا معدومة ، وهذا الزمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمى بالأجل ، أي المدة التي يبلغ إليها الحي بحياته في علم الله تعالى وتكوينه ، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقر والمتاع ، وهذا إعلام من الله بما قدره للنوعين ، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم .