[ ص: 86 ] قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون
بعد أن أبطل زعمهم أن الله أمرهم بما يفعلونه من الفواحش إبطالا عاما بقوله :
قل إن الله لا يأمر بالفحشاء استأنف استئنافا استطراديا بما فيه جماع مقومات الدين الحق الذي يجمعه معنى القسط أي العدل تعليما لهم بنقيض جهلهم ، وتنويها بجلال الله تعالى ، بأن يعلموا ما شأنه أن يأمر الله به . ولأهمية هذا الغرض ، ولمضادته لمدعاهم المنفي في جملة :
قل إن الله لا يأمر بالفحشاء فصلت هذه الجملة عن التي قبلها ، ولم يعطف القول على القول ولا المقول على المقول : لأن في إعادة فعل القول وفي ترك عطفه على نظيره لفتا للأذهان إليه .
والقسط : العدل وهو هنا العدل بمعناه الأعم ، أي الفعل الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط في الأشياء ، وهو الفضيلة من كل فعل ، فالله أمر بالفضائل وبما تشهد العقول السليمة أنه صلاح محض وأنه حسن مستقيم ، نظير قوله :
وكان بين ذلك قواما فالتوحيد عدل بين الإشراك والتعطيل ، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدماء وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل لأجل جناية واحد من القبيلة لم يقدر عليه . وأمر الله بالإحسان ، وهو عدل بين الشح والإسراف ، فالقسط صفة للفعل في ذاته بأن يكون ملائما للصلاح عاجلا وآجلا ، أي سالما من عواقب الفساد ، وقد نقل عن ابن عباس أن القسط قول لا إله إلا هو ، وإنما يعني بذلك أن التوحيد من أعظم القسط ، وهذا إبطال للفواحش التي زعموا أن الله أمرهم بها لأن شيئا من تلك الفواحش ليس
[ ص: 87 ] بقسط ، وكذلك اللباس فإن التعري تفريط ، والمبالغة في وضع اللباس إفراط ، والعدل هو اللباس الذي يستر العورة ويدفع أذى القر أو الحر ، وكذلك الطعام فتحريم بعضه غلو ، والاسترسال فيه نهامة ، والوسط هو الاعتدال ، فقوله :
أمر ربي بالقسط كلام جامع لإبطال كل ما يزعمون أن الله أمرهم به مما ليس من قبيل القسط .
ثم أعقبه بأمر النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم عن الله :
وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد فجملة : وأقيموا عطف على جملة :
أمر ربي بالقسط أي قل لأولئك المخاطبين أقيموا وجوهكم . والقصد الأول منه إبطال بعض مما زعموا أن الله أمرهم به بطريق أمرهم بضد ما زعموه ليحصل أمرهم بما يرضي الله بالتصريح ، وإبطال شيء زعموا أن الله أمرهم به بالالتزام ، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وإن شئت قلت لأن من يريد النهي عن شيء وفعل ضده يأمر بضده فيحصل الغرضان من أمره .
وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى ، في مواضع عبادته ، بحال المتهيئ لمشاهدة أمر مهم حين يوجه وجهه إلى صوبه ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فذلك التوجه المحض يطلق عليه إقامة لأنه جعل الوجه قائما ، أي غير متغاض ولا متوان في التوجه ، وهو في إطلاق القيام على القوة في الفعل كما يقال : قامت السوق ، وقامت الصلاة ، وقد تقدم في أول سورة البقرة عند قوله :
ويقيمون الصلاة ومنه قوله تعالى :
فأقم وجهك للدين حنيفا فالمعنى أن الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد ، لأن ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة . ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك مثل التعري ، وإشراك الله بغيره في العبادة مناف لها أيضا ، وهذا كما ورد في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341786المصلي يناجي ربه فلا يبصقن قبل وجهه فالنهي عن التعري
[ ص: 88 ] مقصود هنا لشمول اللفظ إياه ، ولدلالة السياق عليه بتكرير الامتنان والأمر باللباس : ابتداء من قوله :
ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما إلى هنا .
ومعنى :
عند كل مسجد عند كل مكان متخذ لعبادة الله تعالى ، واسم المسجد منقول في الإسلام للمكان المعين المحدود المتخذ للصلاة وتقدم عند قوله تعالى :
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام في سورة العقود ، فالشعائر التي يوقعون فيها أعمالا من الحج كلها مساجد ، ولم يكن لهم مساجد غير شعائر الحج ، فذكر المساجد في الآية يعين أن المراد إقامة الوجوه عند التوجه إلى الله في الحج بأن لا يشركوا مع الله في ذلك غيره من أصنامهم بالنية ، كما كانوا وضعوا هبل على سطح الكعبة ليكون الطواف بالكعبة لله ولهبل ، ووضعوا إسافا ونائلة على الصفا والمروة ليكون السعي لله ولهما . وكان فريق منهم يهلون إلى مناة عند المشلل ، فالأمر بإقامة الوجوه عند المساجد كلها أمر بالتزام التوحيد وكمال الحال في شعائر الحج كلها ، فهذه مناسبة عطف قوله :
وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد عقب إنكار أن يأمر الله بالفحشاء من أحوالهم ، وإثبات أنه أمر بالقسط مما يضادها .
وهذا الأمر وإن كان المقصود به المشركين لأنهم المتصفون بضده ، فللمؤمنين منه حظ الدوام عليه ، كما كان للمشركين حظ الإعراض عنه والتفريط فيه .
والدعاء في قوله
وادعوه مخلصين له الدين بمعنى العبادة أي اعبدوه كقوله :
إن الذين تدعون من دون الله .
والإخلاص تمحيض الشيء من مخالطة غيره .
والدين بمعنى الطاعة من قولهم دنت لفلان أي أطعته .
[ ص: 89 ] ومنه سمي الله تعالى : الديان ، أي القهار المذلل المطوع لسائر الموجودات ونظير هذه الآية قوله تعالى :
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، والمقصد منها إبطال الشرك في عبادة الله تعالى ، وفي إبطاله تحقيق لمعنى القسط الذي في قوله :
قل أمر ربي بالقسط كما قدمناه هنالك ، و مخلصين حال من الضمير في ادعوه .
وجملة :
كما بدأكم تعودون في موضع الحال من الضمير المستتر في قوله مخلصين وهي حال مقدرة أي : مقدرين عودكم إليه وأن عودكم كبدئكم ، وهذا إنذار بأنهم مؤاخذون على عدم الإخلاص في العبادة ، فالمقصود منه هو قوله : تعودون أي إليه ، وأدمج فيه قوله
كما بدأكم تذكيرا بإمكان البعث الذي أحالوه ; فكان هذا إنذار لهم بأنهم عائدون إليه فمجازون عن إشراكهم في عبادته ، وهو أيضا احتجاج عليهم على عدم جدوى عبادتهم غير الله ، وإثبات للبعث الذي أنكروه بدفع موجب استبعادهم إياه ، حين يقولون :
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ويقولون
أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة ونحو ذلك ، بأن ذلك الخلق ليس بأعجب من خلقهم الأول كما قال تعالى :
أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد وكما قال :
وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه أي بنقيض تقدير استبعادهم الخلق الثاني ، وتذكير لهم بأن الله منفرد بخلقهم الثاني ، كما انفرد بخلقهم الأول ، فهو منفرد بالجزاء فلا يغني عنهم آلهتهم شيئا .
فالكاف في قوله :
كما بدأكم تعودون لتشبيه عود خلقهم ببدئه و " ما " مصدرية والتقدير : تعودون عودا جديدا كبدئه إياكم ، فقدم المتعلق الدال على التشبيه ، على فعله ، وهو تعودون ، للاهتمام به ، وقد فسرت الآية في بعض الأقوال بمعان هي بعيدة عن سياقها ونظمها .
[ ص: 90 ] و فريقا الأول والثاني منصوبان على الحال : إما من الضمير المرفوع في تعودون أي ترجعون إلى الله فريقين ، فاكتفي عن إجمال الفريقين ثم تفصيلهما بالتفصيل الدال على الإجمال تعجيلا بذكر التفصيل لأن المقام مقام ترغيب وترهيب ، ومعنى
فريقا هدى : أن فريقا هداهم الله في الدنيا " وفريقا حق عليهم الضلالة " ، أي في الدنيا ، كما دل عليه التعليل بقوله :
إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، وإما من الضمير المستتر في قوله : مخلصين أي ادعوه مخلصين حال كونكم فريقين : فريقا هداه الله للإخلاص ونبذ الشرك ، وفريقا دام على الضلال ولازم الشرك .
وجملة : هدى في موضع الصفة لـ " فريقا " الأول ، وقد حذف الرابط المنصوب : أي هداهم الله ، وجملة :
حق عليهم الضلالة صفة " فريقا " الثاني .
وهذا كله إنذار من الوقوع في الضلال ،
وتحذير من اتباع الشيطان ، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى ، كما دل عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله : هدى فيعلم السامعون أنهم إذا رجعوا إليه فريقين كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى كما قال :
أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون وأن الفريق الخاسر هم الذين حقت عليهم الضلالة واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله كما قال :
أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون . وتقديم " فريقا " الأول والثاني على عامليهما للاهتمام بالتفصيل .
ومعنى :
حق عليهم الضلالة ثبتت لهم الضلالة ولزموها . ولم يقلعوا عنها ، وذلك أن المخاطبين كانوا مشركين كلهم ، فلما أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين افترقوا فريقين : فريقا هداه الله إلى التوحيد ، وفريقا لازم الشرك والضلالة ، فلم يطرأ عليهم حال جديد . وبذلك يظهر حسن موقع لفظ " حق " هنا دون أن يقال أضله الله ، لأن ضلالهم قديم مستمر اكتسبوه لأنفسهم ، كما قال تعالى في نظيره :
فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ثم قال
إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ،
[ ص: 91 ] فليس تغيير الأسلوب بين :
فريقا هدى وبين :
وفريقا حق عليهم الضلالة تحاشيا عن إسناد الإضلال إلى الله ، كما توهمه صاحب الكشاف ، لأنه قد أسند الإضلال إلى الله في نظير هذه الآية كما علمت وفي آيات كثيرة ، ولكن اختلاف الأسلوب لاختلاف الأحوال .
وجرد فعل " حق " عن علامة التأنيث لأن فاعله غير حقيقي التأنيث ، وقد أظهرت علامة التأنيث في نظيره في قوله تعالى :
ومنهم من حقت عليه الضلالة .
وقوله :
إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله استئناف مراد به التعليل لجملة
حقت عليه الضلالة ، وهذا شأن إن إذا وقعت في صدر جملة عقب جملة أخرى أن تكون للربط والتعليل وتغني غناء الفاء ، كما تقدم غير مرة .
والمعنى أن هذا الفريق ، الذي حقت عليهم الضلالة ، لما سمعوا الدعوة إلى التوحيد والإسلام ، لم يطلبوا النجاة ولم يتفكروا في ضلال الشرك البين ، ولكنهم استوحوا شياطينهم ، وطابت نفوسهم بوسوستهم ، وائتمروا بأمرهم ، واتخذوهم أولياء ، فلا جرم أن يدوموا على ضلالهم لأجل اتخاذهم الشياطين أولياء من دون الله .
وعطف جملة : ويحسبون على جملة : اتخذوا فكان ضلالهم ضلالا مركبا ، إذ هم قد ضلوا في الائتمار بأمر أيمة الكفر وأولياء الشياطين ، ولما سمعوا داعي الهدى لم يتفكروا ، وأهملوا النظر ، لأنهم يحسبون أنهم مهتدون لا يتطرق إليهم شك في أنهم مهتدون ، فلذلك لم تخطر ببالهم الحاجة إلى النظر في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
والحسبان الظن ، وهو هنا ظن مجرد عن دليل ، وذلك أغلب ما يراد بالظن وما يرادفه في القرآن .
[ ص: 92 ] وعطف هذه الجملة على التي قبلها ، واعتبارهما سواء في الإخبار عن الفريق الذين حقت عليهم الضلالة ، لقصد الدلالة على أن ضلالهم حاصل في كل واحد من الخبرين ،
فولاية الشياطين ضلالة ، وحسبانهم ضلالهم هدى ضلالة أيضا ، سواء كان ذلك كله عن خطأ أو عن عناد ، إذ لا عذر للضال في ضلاله بالخطأ ، لأن الله نصب الأدلة على الحق وعلى التمييز بين الحق والباطل .