ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون اعتراض بين جملة :
يا بني آدم خذوا زينتكم وبين جملة :
يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم لما نعى الله على المشركين ضلالهم وتمردهم ، بعد أن دعاهم إلى الإيمان ، وإعراضهم عنه ، بالمجادلة والتوبيخ وإظهار نقائصهم بالحجة البينة ، وكان حالهم حال من لا يقلع عما هم فيه ، أعقب ذلك بإنذارهم ووعيدهم إقامة للحجة عليهم وإعذارا لهم قبل حلول العذاب بهم .
وهذه الجملة تؤكد الغرض من جملة :
وكم من قرية أهلكناها . وتحتمل معنيين : أحدهما : أن يكون المقصود بهذا الخبر المشركين ، بأن أقبل الله على خطابهم أو أمر نبيه بأن يخاطبهم ، لأن هذا الخطاب خطاب وعيد وإنذار .
[ ص: 103 ] والمعنى الثاني : أن يكون المقصود بالخبر النبيء - صلى الله عليه وسلم ، فيكون وعدا له بالنصر على مكذبيه ، وإعلاما له بأن سنته سنة غيره من الرسل بطريقة جعل سنة أمته كسنة غيرها من الأمم .
وذكر عموم الأمم في هذا الوعيد ، مع أن المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا ، إنما هو مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم على طريقة الاستشهاد بشواهد التاريخ في قياس الحاضر على الماضي فيكون الوعيد خبرا معضودا بالدليل والحجة . كما قال تعالى في آيات كثيرة منها :
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي : ما أنتم إلا أمة من الأمم المكذبين ولكل أمة أجل فأنتم لكم أجل سيحين حينه .
وذكر الأجل هنا دون أن يقول لكل أمة عذاب أو استئصال ؛ إيقاظا لعقولهم من أن يغرهم الإمهال فيحسبوا أن الله غير مؤاخذهم على تكذيبهم ، كما قالوا :
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، وطمأنة للرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن
تأخير العذاب عنهم إنما هو جري على عادة الله تعالى في إمهال الظالمين على حد قوله :
حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا وقوله
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل .
ومعنى : " لكل أمة أجل " لكل أمة مكذبة إمهال فحذف وصف أمة أي : مكذبة .
وجعل لذلك الزمان نهاية وهي الوقت المضروب لانقضاء الإمهال ، فالأجل يطلق على مدة الإمهال ، ويطلق على الوقت المحدد به انتهاء الإمهال ، ولا شك أنه وضع لأحد الأمرين ثم استعمل في الآخر على تأويل منتهى المدة أو تأخير المنتهى وشاع الاستعمالان ، فعلى الأول يقال قضى الأجل أي المدة كما قال تعالى : " أيما الأجلين قضيت " وعلى الثاني يقال : " دنا
[ ص: 104 ] أجل فلان " وقوله تعالى :
وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا والواقع في هذه الآية يصح للاستعمالين بأن يكون المراد بالأجل الأول المدة ، وبالثاني الوقت المحدد لفعل ما .
والمراد بالأمة هنا الجماعة التي اشتركت في عقيدة الإشراك أو في تكذيب الرسل ، كما يدل عليه السياق من قوله تعالى : " وأن تشركوا بالله " إلخ وليس المراد بالأمة الجماعة التي يجمعها نسب أو لغة إذ لا يتصور انقراضها عن بكرة أبيها ، ولم يقع في التاريخ انقراض إحداها ، وإنما وقع في بعض الأمم أن انقرض غالب رجالها بحوادث عظيمة مثل " طسم " و " جديس " و " عدوان " فتندمج بقاياها في أمم أخرى مجاورة لها فلا يقال لأمة إن لها أجلا تنقرض فيه إلا بمعنى جماعة يجمعها أنها مرسل إليها رسول فكذبته ، وكذلك كان ماصدق هذه الآية ، فإن العرب لما أرسل
محمد - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ دعوته فيهم ولهم ، فآمن به من آمن ، وتلاحق المؤمنون أفواجا ، وكذب به أهل
مكة وتبعهم من حولهم ، وأمهل الله العرب بحكمته وبرحمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341584لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده فلطف الله بهم إذ جعلهم مختلطين مؤمنهم ومشركهم ، ثم هاجر المؤمنون فبقيت
مكة دار شرك وتمحض من علم الله أنهم لا يؤمنون فأرسل الله عليهم عباده المؤمنين فاستأصلوهم فوجا بعد فوج ، في يوم
بدر وما بعده من أيام الإسلام ، إلى أن تم استئصال أهل الشرك بقتل بقية من قتل منهم في غزوة الفتح ، مثل
عبد الله بن خطل ومن قتل معه ، فلما فتحت
مكة دان العرب للإسلام وانقرض أهل الشرك ، ولم تقم للشرك قائمة بعد ذلك ، وأظهر الله عنايته بالأمة العربية إذ كانت من أول دعوة الرسول غير متمحضة للشرك ، بل كان فيها مسلمون من أول يوم الدعوة ، ومازالوا يتزايدون .
وليس المراد في الآية بأجل الأمة أجل أفرادها ، وهو مدة حياة كل واحد منها ؛ لأنه لا علاقة له بالسياق ، ولأن إسناده إلى الأمة يعين
[ ص: 105 ] أنه أجل مجموعها لا أفرادها ، ولو أريد آجال الأفراد لقال لكل أحد أو لكل حي أجل .
و " إذا " ظرف زمان للمستقبل في الغالب ، وتتضمن معنى الشرط غالبا ، لأن معاني الظروف قريبة من معاني الشرط لما فيها من التعليق ، وقد استغني بفاء تفريع عامل الظرف هنا عن الإتيان بالفاء في جواب إذا لظهور معنى الربط والتعليق بمجموع الظرفية والتفريع ، والمفرع هو : جاء أجلهم وإنما قدم الظرف على عامله للاهتمام به ليتأكد بذلك التقديم معنى التعليق .
والمجيء مجاز في الحلول المقدر له كقولهم جاء الشتاء .
وإفراد الأجل في قوله : "
إذا جاء أجلهم " مراعى فيه الجنس ، الصادق بالكثير ، بقرينة إضافته إلى ضمير الجمع .
وأظهر لفظ أجل في قوله : "
إذا جاء أجلهم " ولم يكتف بضميره لزيادة تقرير الحكم عليه ، ولتكون هذه الجملة مستقلة بنفسها غير متوقفة على سماع غيرها لأنها بحيث تجري مجرى المثل ، وإرسال الكلام الصالح لأن يكون مثلا طريق من طرق البلاغة .
و يستأخرون و يستقدمون بمعنى : يتأخرون ويتقدمون ، فالسين والتاء فيهما للتأكيد مثل استجاب .
والمعنى : إنهم لا يتجاوزونه بتأخير ولا يتعجلونه بتقديم ، والمقصود أنهم لا يؤخرون عنه ، فعطف ولا يستقدمون تتميم لبيان أن ما علمه الله وقدره على وفق علمه لا يقدر أحد على تغييره وصرفه ، فكان قوله : ولا يستقدمون لا تعلق له بغرض التهديد ، وقريب من هذا قول
أبي الشيص :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
[ ص: 106 ] وكل ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التخلص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء .