صفحة جزء
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين [ ص: 200 ] يجوز أن يكون العطف من عطف الجمل بأن يقدر بعد واو العطف أرسلنا لدلالة حرف إلى عليه ، مع دلالة سبق نظيره في الجملة المعطوف عليها ، والتقدير وأرسلنا إلى عاد ، فتكون الواو لمجرد الجمع اللفظي من عطف القصة على القصة وليس من عطف المفردات ، ويجوز أن يكون من عطف المفردات : عطفت الواو هودا على نوحا ، فتكون الواو نائبة عن العامل وهو أرسلنا ، والتقدير : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه وهودا أخا عاد إليهم وقدمت إلى فهو من العطف على معمولي عامل واحد ، وتقديم ( إلى ) اقتضاه حسن نظم الكلام في عود الضمائر ، والوجه الأول أحسن .

وقدم المجرور على المفعول الأصلي ليتأتى الإيجاز بالإضمار حيث أريد وصف هود بأنه من إخوة عاد من صميمهم ، من غير احتياج إلى إعادة لفظ عاد ، ومع تجنب عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، فقيل وإلى عاد أخاهم هودا ، و هودا بدل أو بيان من أخاهم .

وعاد أمة عظيمة من العرب العاربة البائدة ، وكانوا عشر قبائل ، وقيل ثلاث عشرة قبيلة وهم أبناء عاد بن عوص ، وعوص هو ابن إرم بن سام بن نوح ، كذا اصطلح المؤرخون .

وهود اختلف في نسبه ، فقيل : هو من ذرية عاد ، فقال القائلون بهذا : هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد ، وقيل : هو من ذرية سام جد عاد ، وليس من ذرية عاد ، والقائلون بهذا قالوا هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وذكر البغوي عن علي : أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر ، وعن عبد الرحمن بن سابط : أن قبر هود بين الركن والمقام وزمزم .

وعاد أريد به القبيلة وساغ صرفه لأنه ثلاثي ساكن الوسط ، وكانت منازل عاد ببلاد العرب بالشحر بكسر الشين المعجمة وسكون الحاء المهملة من أرض اليمن وحضرموت وعمان والأحقاف ، وهي الرمال [ ص: 201 ] التي بين حضرموت وعمان .

والأخ هنا مستعمل في مطلق القريب ، على وجه المجاز المرسل ومنه قولهم يا أخا العرب ، وقد كان هود من بني عاد ، وقيل : كان ابن عم إرم ، ويطلق الأخ مجازا أيضا على المصاحب الملازم ، كقولهم : هو أخو الحرب ، ومنه إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وقوله وإخوانهم يمدونهم في الغي . فالمراد أن هودا كان من ذوي نسب قومه عاد ، وإنما وصف هود وغيره بذلك ، ولم يوصف نوح بأنه أخ لقومه : لأن الناس في زمن نوح لم يكونوا قد انقسموا شعوبا وقبائل ، والعرب يقولون ، للواحد من القبيلة : أخو بني فلان ، قصدا لعزوه ونسبته تمييزا للناس إذ قد يشتركون في الأعلام ، ويؤخذ من هذه الآية ونظائرها أن نظام القبائل ما حدث إلا بعد الطوفان .

فصلت جملة قال يا قوم ولم تعطف بالفاء كما عطف نظيرها المتقدم في قصة نوح : لأن الحال اقتضى هنا أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا لأن قصة هود لما وردت عقب قصة نوح المذكور فيها دعوته قومه صار السامع مترقبا معرفة ما خاطب به هود قومه حيث بعثه الله إليهم ، فكان ذلك مثار سؤال في نفس السامع أن يقول : فماذا دعا هود قومه وبماذا أجابوا ؟ فيقع الجواب بأنه قال : يا قوم اعبدوا الله إلخ مع ما في هذا الاختلاف من التفنن في أساليب الكلام ، ولأن الفعل المفرع عنه القول بالعطف لما كان محذوفا لم يكن التفريع حسنا في صورة النظم .

والربط بين الجمل حاصل في الحالتين لأن فاء العطف رابط لفظي للمعطوف بالمعطوف عليه وجواب السؤال رابط جملة الجواب بجملة مثار السؤال ربطا معنويا

وجملة ما لكم من إله غيره مستأنفة ابتدائية . وقد شابهت دعوة هود قومه دعوة نوح قومه في المهم من كلامها : لأن الرسل مرسلون [ ص: 202 ] من الله والحكمة من الإرسال واحدة ، فلا جرم أن تتشابه دعواتهم ، وفي الحديث : الأنبياء أبناء علات وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى .

وجملة أفلا تتقون استفهامية إنكارية معطوفة بفاء التفريع على جملة ما لكم من إله غيره . والمراد بالتقوى الحذر من عقاب الله تعالى على إشراكهم غيره في العبادة واعتقاد الإلهية . وفيه تعريض بوعيدهم إن استمروا على ذلك . وإنما ابتدأ بالإنكار عليهم إغلاظا في الدعوة وتهويلا لفظاعة الشرك ، إن كان قال ذلك في ابتداء دعوته ، ويحتمل أن ذلك حكاية قول من أقواله في تكرير الدعوة بعد أن دعاهم المرة بعد المرة ووعظهم ، كما قال نوح إني دعوت قومي ليلا ونهارا كما اقتضاه بعض توجيهات تجريد حكاية كلامه عن فاء التفريع المذكور آنفا .

ووصف الملأ بـ الذين كفروا هنا ، دون ما في قصة نوح ، وصف كاشف وليس للتقييد تفننا في أساليب الحكاية ألا ترى أنه قد وصف ملأ قوم نوح بـ الذين كفروا في آية سورة هود ، والتوجيه الذي في الكشاف هنا غفلة عما في سورة هود .

والرؤية قلبية ، أي إنا لنعلم أنك في سفاهة .

والسفاهة سخافة العقل ، وقد تقدم القول في هذه المادة عند قوله تعالى قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء وقوله ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه في سورة البقرة . جعلوا قوله ما لكم من إله غيره كلاما لا يصدر إلا عن مختل العقل لأنه من قول المحال عندهم .

وأطلقوا الظن على اليقين في قولهم : وإنا لنظنك من الكاذبين وهو استعمال كثير كما في قوله تعالى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وقد تقدم في سورة البقرة ، وأرادوا تكذيبه في قوله ما لكم من إله غيره ، وفيما يتضمنه قوله ذلك من كونه رسولا إليهم من الله .

[ ص: 203 ] وقد تشابهت أقوال قوم هود وأقوال قوم نوح في تكذيب الرسول لأن ضلالة المكذبين متحدة ، وشبهاتهم متحدة ، كما قال تعالى : تشابهت قلوبهم فكأنهم لقن بعضهم بعضا كما قال تعالى أتواصوا به بل هم قوم طاغون .

التالي السابق


الخدمات العلمية