فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الفاء للتعقيب لحكاية قول الذين استكبروا :
إنا بالذي آمنتم به كافرون ، أي قالوا ذلك فعقروا ، والتعقيب في كل شيء بحسبه ، وذلك أنهم حين قالوا ذلك كانوا قد صدعوا بالتكذيب ، وصمموا عليه ، وعجزوا عن المحاجة والاستدلال ، فعزموا على المصير إلى النكاية والإغاظة
لصالح - عليه السلام - ومن آمن به ، ورسموا لابتداء عملهم أن يعتدوا على الناقة
[ ص: 225 ] التي جعلها
صالح - عليه السلام - لهم ، وأقامها بينه وبينهم علامة موادعة ما داموا غير متعرضين لها بسوء ، ومقصدهم من نيتهم
إهلاك الناقة أن يزيلوا آية
صالح - عليه السلام - لئلا يزيد عدد المؤمنين به ، لأن مشاهدة آية نبوءته سالمة بينهم تثير في نفوس كثير منهم الاستدلال على صدقه والاستئناس لذلك بسكوت كبرائهم وتقريرهم لها على مرعاها وشربها ، ولأن في اعتدائهم عليها إيذانا منهم بتحفيزهم للضرار
بصالح - عليه السلام - وبمن آمن به بعد ذلك وليروا
صالحا عليه السلام أنهم مستحقون بوعيده إذ قال لهم : ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم .
والضمير في قوله : ( فعقروا ) عائد إلى ( الذين استكبروا ) ، وقد أسند العقر إليهم وإن كان فاعله واحدا منهم لأنه كان عن تمالئ ورضى من جميع الكبراء ، كما دل عليه قوله تعالى في سورة القمر :
فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ، وهذا كقول
النابغة في شأن
بني حن :
وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة .
وإنما قتله واحد منهم .
وذكر في الأثر : أن
الذي تولى الناقة رجل من سادتهم اسمه قدار بضم القاف ودال مهملة مخففة وراء في آخره
ابن سالف . وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أن النبيء - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341807ذكر في خطبته الذي عقر الناقة فقال : انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة .
والعقر : حقيقته الجرح البليغ ، قال
امرؤ القيس : 69 تقول وقد مال الغبيط بـنـا مـعـا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل أي جرحته باحتكاك الغبيط في ظهره من ميله إلى جهة ، ويطلق العقر على قطع عضو الحيوان ، ومنه قولهم ، عقر حمار وحش ، أي ضربه بالرمح
[ ص: 226 ] فقطع منه عضوا ، وكانوا يعقرون البعير المراد نحره بقطع عضو منه حتى لا يستطيع الهروب عند النحر ، فلذلك أطلق العقر على النحر على وجه الكناية قال
امرؤ القيس :
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
وما في هذه الآية كذلك .
والعتو تجاوز الحد في الكبر ، وتعديته لتضمينه معنى الإعراض .
وأمر ربهم هو ما أمرهم به على لسان
صالح - عليه السلام - من قوله : ولا تمسوها بسوء فعبر عن النهي بالأمر لأن النهي عن الشيء مقصود منه الأمر بفعل ضده ، ولذلك يقول علماء الأصول إن
النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده الذي يحصل به تحقق الكف عن المنهي عنه .
وأرادوا : ( بما تعدنا ) العذاب الذي توعدهم به مجملا . وجيء بالموصول للدلالة على أنهم لا يخشون شيئا مما يريده من الوعيد المجمل . فالمراد بما تتوعدنا به وصيغت صلة الموصول من مادة الوعد لأنه أخف من مادة الوعيد .
وقد فرضوا كونه من المرسلين بحرف إن الدال على الشك في حصول الشرط . أي إن كنت من الرسل عن الله فالمراد بالمرسلين من صدق عليهم هذا اللقب . وهؤلاء . لجهلهم بحقيقة تصرف الله تعالى وحكمته ، يحسبون أن تصرفات الله كتصرفات الخلق ، فإذا أرسل رسولا ولم يصدقه المرسل إليهم غضب الله واندفع إلى إنزال العقاب إليهم ، ولا يعلمون أن الله يمهل الظالمين ثم يأخذهم متى شاء .
وجملة ( فأخذتهم الرجفة ) معترضة بين جملة (
فعقروا الناقة ) وبين جملة ( فتولى عنهم ) أريد باعتراضها التعجيل بالخبر عن نفاذ الوعيد فيهم بعقب عتوهم ، فالتعقيب عرفي ، أي لم يكن بين العقر وبين الرجفة زمن طويل ، كان بينهما ثلاثة أيام ، كما ورد في آية سورة هود
[ ص: 227 ] فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب .
وأصل الأخذ تناول شيء باليد ، ويستعمل مجازا في ملك الشيء ، بعلاقة اللزوم ، ويستعمل أيضا في القهر كقوله فأخذهم الله بذنوبهم ،
فأخذهم أخذة رابية وأخذ الرجفة : إهلاكها إياهم وإحاطتها بهم إحاطة الآخذ . ولا شك أن الله نجى
صالحا - عليه السلام - والذين آمنوا معه ، كما في آية سورة هود . وقد روي أنه خرج في مائة وعشرة من المؤمنين ، فقيل : نزلوا رملة
فلسطين ، وقيل : تباعدوا عن ديار قومهم بحيث يرونها ، فلما أخذتهم الرجفة وهلكوا عاد
صالح - عليه السلام - ومن آمن معه فسكنوا ديارهم ، وقيل : سكنوا
مكة وأن
صالحا - عليه السلام - دفن بها ، وهذا بعيد كما قلناه في
عاد ، ومن أهل الأنساب من يقول : إن
ثقيفا من بقايا
ثمود ، أي من ذرية من نجا منهم من العذاب ، ولم يذكر القرآن أن
ثمودا انقطع دابرهم فيجوز أن تكون منهم بقية .
والرجفة : اضطراب الأرض وارتجاجها ، فتكون من حوادث سماوية كالرياح العاصفة والصواعق ، وتكون من أسباب أرضية كالزلازل ، فالرجفة اسم للحالة الحاصلة ، وقد سماها في سورة هود بالصيحة فعلمنا أن الذي
أصاب ثمود هو صاعقة أو صواعق متوالية رجفت أرضهم وأهلكتهم صعقين ، ويحتمل أن تقارنها زلزال أرضية .
والدار : المكان الذي يحتله القوم ، وهو يفرد ويجمع باعتبارين ، فلذلك قال في آية سورة هود :
فأصبحوا في ديارهم جاثمين .
فأصبحوا هنا بمعنى صاروا .
والجاثم : المكب على صدره في الأرض مع قبض ساقيه كما يجثو الأرنب ، ولما كان ذلك أشد سكونا وانقطاعا عن اضطراب الأعضاء استعمل في الآية كناية عن همود الجثة بالموت ، ويجوز أن يكون المراد تشبيه حالة وقوعهم على وجوههم حين صعقوا بحالة الجاثم تفظيعا لهيئة ميتتهم ، والمعنى أنهم
[ ص: 228 ] أصبحوا جثثا هامدة ميتة على أبشع منظر لميت .
والفاء في قوله :
فتولى عنهم عاطفة على جملة :
فعقروا الناقة والتولي الانصراف عن فراق وغضب ، ويطلق مجازا على عدم الاكتراث بالشيء ، وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنه فارق ديار قومه حين علم أن العذاب نازل بهم ، فيكون التعقيب لقوله :
فعقروا الناقة لأن ظاهر تعقيب التولي عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرجفة فأصبحوا جاثمين .
ويحتمل أن يكون مجازا بقرينة الخطاب أيضا ، أي فأعرض عن النظر إلى القرية بعد أصابتها بالصاعقة ، أو فأعرض عن الحزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى : لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين .
فعلى الوجه الأول يكون قوله : يا قوم لقد أبلغتكم إلخ مستعملا في التوبيخ لهم والتسجيل عليهم ، وعلى الوجه الثاني يكون مستعملا في التحسر أو في التبرؤ منهم ، فيكون النداء تحسرا فلا يقتضي كون أصحاب الاسم المنادى ممن يعقل النداء حينئذ ، مثل ما تنادي الحسرة في : يا حسرة .
وقوله : (
لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ) تفسيره مثل تفسير قوله في قصة
نوح - عليه السلام - : (
أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ) . واللام في لقد لام القسم ، وتقدم نظيره عند قوله :
لقد أرسلنا نوحا .
والاستدراك بـ لكن ناشئ عن قوله :
لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم لأنه مستعمل في التبرؤ من التقصير في معالجة كفرهم ، سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه ، فذلك التبرؤ يؤذن بدفع توهم تقصير في الإبلاغ والنصيحة لانعدام ظهور فائدة الإبلاغ والنصيحة ، فاستدرك بقوله :
ولكن لا تحبون الناصحين ، أي تكرهون الناصحين فلا تطيعونهم في نصحهم . لأن المحب لمن يحب مطيع ، فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النصيحة .
[ ص: 229 ] واستعمال المضارع في قوله : لا تحبون إن كان في حال سماعهم قوله فهو للدلالة على التجديد والتكرير ، أي لم يزل هذا دأبكم فيكون ذلك آخر علاج لإقلاعهم إن كانت فيهم بقية للإقلاع عما هم فيه ، وإن كان بعد انقضاء سماعهم فالمضارع لحكاية الحال الماضية مثلها في قوله تعالى :
والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا .