وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين
جملة وأوحينا معطوفة على جملة سحروا أعين الناس ، واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم . فهي في حيز جواب لما ، أي : لما ألقوا سحروا ، وأوحينا إلى موسى أن ألق لهم عصاك .
و ( أن ) تفسيرية لفعل أوحينا ، والفاء للتعقيب الدال على سرعة مفاجأة شروعها في التلقف بمجرد إلقائها ، وقد دل السياق على جملتين محذوفتين ، إذ التقدير : فألقاها فدبت فيها الحياة وانقلبت ثعبانا فإذا هي تلقف ، دل على الجملة الأولى الأمر بالإلقاء ، وعلى الجملة الثانية التلقف لأنه من شأن الحيوان ، والعصا إذا دبت فيها الحياة صارت ثعبانا بدون تبديل شكل .
والتلقف : مبالغة في اللقف وهو الابتلاع والازدراد .
و ( ما ) موصولة والعائد محذوف أي : ما يأفكونه .
والإفك : الصرف عن الشيء ويسمى الزور إفكا ، والكذب المصنوع إفكا ؛ لأن فيه صرفا عن الحق وإخفاء للواقع ، فلا يسمى إفكا إلا الكذب المصطنع المموه ، وإنما جعل السحر إفكا لأن ما يظهر منه مخالف للواقع فشبه بالخبر الكاذب .
وقرأ الجمهور تلقف بقاف مشددة ، وأصله تتلقف ، أي تبالغ وتتكلف اللقف ما استطاعت ، وقرأ
حفص عن
عاصم : بسكون اللام وتخفيف القاف على صيغة المجرد .
والتعبير بصيغة المضارع في قوله ( تلقف ) و ( يأفكون ) للدلالة على التجديد والتكرير ، مع استحضار الصورة العجيبة ، أي : فإذا هي يتجدد تلقفها لما يتجدد ويتكرر من إفكهم . وتسمية سحرهم إفكا دليل على أن السحر لا معمول له وأنه مجرد تخييلات وتمويهات .
[ ص: 50 ] وقوله فوقع الحق تفريع على ( تلقف ما يأفكون ) . والوقوع حقيقته سقوط الشيء من أعلى إلى الأرض ، ومنه : وقع الطائر ، إذا نزل إلى الأرض ، واستعير الوقوع لظهور أمر رفيع القدر ؛ لأن ظهوره كان بتأييد إلهي فشبه بشيء نزل من علو ، وقد يطلق الوقوع على الحصول لأن الشيء الحاصل يشبه النازل على الأرض ، وهي استعارة شائعة قال - تعالى -
وإن الدين لواقع أي : حاصل وكائن ، والمعنى فظهر الحق وحصل .
ولعل في اختيار لفظ " وقع " ، هنا دون " نزل " مراعاة لفعل الإلقاء لأن الشيء الملقى يقع على الأرض فكان وقوع العصا على الأرض وظهور الحق مقترنين .
والحق : هو الأمر الثابت الموافق للبرهان ، وضده الباطل ، والحق هنا أريد به
صدق موسى وصحة معجزته وكون ما فعلته العصا هو من صنع الله - تعالى - ، وأثر قدرته .
وبطل : حقيقته اضمحل . والمراد : اضمحلال المقصود منه وانتفاء أثر مزعوم لشيء يقال : بطل سعيه ، أي : لم يأت بفائدة ، ويقال : بطل عمله ، أي : ذهب ضياعا وخسر بلا أجر ، ومنه قوله - تعالى - ويبطل الباطل أي : يزيل مفعوله وما قصدوه منه ، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه ، أو لا خير فيه ، ومنه سمي ضد الحق باطلا لأنه شيء لا يحصل منه الأثر المرجو ، وهو القبول لدى العقول المستقيمة . وشاع هذا الإطلاق حتى صار الباطل كالاسم الجامد ، مدلوله هو ضد الحق ، ويطلق الباطل اسم فاعل من بطل ، فيساوي المصدر في اللفظ ، ويتعين المراد منهما بالقرينة ، فصوغ فعل ( بطل ) يكون مشتقا من المصدر وهو البطلان ، وقد يكون مشتقا من الاسم وهو الباطل . فمعنى بطل حينئذ وصف بأنه باطل مثل فهد وأسد ، ويصح تفسيره هنا بالمعنيين ، فعلى الأول يكون المعنى : وانتفت حينئذ آثار ما كانوا يعملون ، وعلى الثاني يكون المعنى : واتصف ما يعملون بأنه باطل ، وعلى هذا الوجه يتعين أن يكون المراد من الفعل معنى الظهور لا الحدوث ؛ لأن كون ما يعملونه باطلا وصف ثابت له من قبل أن يلقي
موسى عصاه ، ولكن عند إلقاء العصا ظهر كونه باطلا ، ويبعد هذا أن استعمال صيغة الفعل في معنى ظهور حدثه لا في معنى وجوده وحدوثه ، خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا داع .
[ ص: 51 ] وأما من فسر بطل بمعنى : انعدم ، وفسر ما كانوا يعملون بحبال السحرة وعصيهم ففي تفسيره نبو عن الاستعمال ، وعن المقام .
وزيادة قوله وبطل ما كانوا يعملون بعد قوله فوقع الحق تقرير لمضمون جملة فوقع الحق لتسجيل ذم عملهم ، ونداء بخيبتهم ، تأنيسا للمسلمين وتهديدا للمشركين وللكافرين أمثالها .
و ( ما كانوا يعملون ) هو السحر ، أي : بطلت تخيلات الناس أن عصي السحرة وحبالهم تسعى كالحيات ، ولم يعبر عنه بالسحر إشارة إلى أنه كان سحرا عجيبا تكلفوا له وأتوا بمنتهى ما يعرفونه .
وقد عطف عليه جملة فغلبوا بالفاء لحصول المغلوبية إثر تلقف العصا لإفكهم .
و ( هنالك ) اسم إشارة المكان أي غلبوا في ذلك المكان فأفاد بداهة مغلوبيتهم وظهورها لكل حاضر .
والانقلاب : مطاوع قلب والقلب تغيير الحال وتبدله ، والأكثر أن يكون تغييرا من الحال المعتادة إلى حال غريبة .
ويطلق الانقلاب شائعا على الرجوع إلى المكان الذي يخرج منه ، لأن الراجع قد عكس حال خروجه .
وانقلب من الأفعال التي تجيء بمعنى صار وهو المراد هنا أي : صاروا صاغرين ، واختيار لفظ انقلبوا دون " رجعوا " أو " صاروا " لمناسبته للفظ غلبوا في الصيغة ، ولما يشعر به أصل اشتقاقه من الرجوع إلى حال أدون ، فكان لفظ انقلبوا أدخل في الفصاحة .
والصغار : المذلة ، وتلك المذلة هي مذلة ظهور عجزهم ، ومذلة خيبة رجائهم ما أملوه من الأجر والقرب عند فرعون .