قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون
( قالوا ) حكاية جواب قوم
موسى إياه ، فلذلك فصلت جملة القول على طريقة المحاورة ، وهذا الخبر مستعمل في الشكاية واستثارتهم
موسى ليدعو ربه أن يفرج كربهم .
والإيذاء : الإصابة بالأذى ، والأذى ما يؤلم ويحزن من قول أو فعل . وقد تقدم عند قوله - تعالى -
لن يضروكم إلا أذى في سورة آل عمران . وقوله فصبروا على ما كذبوا وأوذوا في سورة الأنعام ، وهو يكون ضعيفا وقويا ، ومرادهم هنا القوي منه ، وهو ما لحقهم من الاستعباد وتكليفهم الأعمال الشاقة عليهم في خدمة فرعون وما توعدهم به فرعون بعد بعثة
موسى من القطع والصلب وقتل الأبناء ، وكأنهم أرادوا التعريض بنفاد صبرهم وأن الأذى الذي مسهم بعد بعثة
موسى لم يكن بداية الأذى ، بل جاء بعد طول مدة في الأذى ، فلذلك جمعوا في كلامهم ما لحقهم قبل بعثة
موسى .
وقد توهم بعض المفسرين أن هذا امتعاض منهم مما لحقهم بسبب
موسى وبواسطته مستندا إلى أن قتل الذكور منهم كان قبل مجيء
موسى بسبب توقع ولادة
موسى ، وكان الوعيد بمثله بعد مجيئه بسبب دعوته ، وليس ذلك بمتجه لأنه لو كان هو المراد لما كان للتعبير بقوله من قبل أن تأتينا موقع ، والإتيان والمجيء مترادفان ، فذكر المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى ، ولكنه للتفنن وكراهية إعادة اللفظ .
[ ص: 62 ] والإتيان والمجيء مدلولهما واحد ، وهو بعثة
موسى بالرسالة ، فجعل الفعل المعبر عنه حين علق به ( قبل ) بصيغة المضارع المقترن بـ أن الدالة على الاستقبال والمصدرية لمناسبة لفظ ( قبل ) لأن ما يضاف إلى ( قبل ) مستقبل بالنسبة لمدلولها ، وجعل حين علق به ( بعد ) بصيغة الماضي المقترن بحرف ( ما ) المصدرية لأن ما المصدرية لا تفيد الاستقبال ليناسب لفظ ( بعد ) لأن مضاف كلمة ( بعد ) ماض بالنسبة لمدلولها .
فأجابهم
موسى بتقريب أن يكونوا هم الذين يرثون ملك الأرض والذين تكون لهم العاقبة .
وجاء بفعل الرجاء دون الجزم تأدبا مع الله - تعالى - ، وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضى الله - تعالى - ونصره . فقوله
عسى ربكم أن يهلك عدوكم ناظر إلى قوله
إن الأرض لله وقوله
ويستخلفكم في الأرض ناظر إلى قوله
والعاقبة للمتقين .
والمراد بالعدو ، فرعون وحزبه ، فوصف عدو يوصف به الجمع قال - تعالى - هم العدو .
والمراد بالاستخلاف : الاستخلاف عن الله في ملك الأرض ، والاستخلاف إقامة الخليفة ، فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له ، أي جعلهم أحرارا غالبين ومؤسسين ملكا في الأرض المقدسة .
ومعنى فينظر كيف تعملون التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله - تعالى - ، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين ، تذكيرا لهم بأنه عليم بما يعملونه .
فالنظر مستعمل في العلم بالمرئيات ، والمقصود بما ( تعملون ) عملهم مع الناس في سياسة ما استخلفوا فيه ، وهو كله من الأمور التي تشاهد إذ لا دخل للنيات والضمائر في السياسة وتدبير الممالك ، إلا بمقدار ما تدفع إليه النيات الصالحة من الأعمال المناسبة لها ، فإذا صدرت الأعمال صالحة كما يرضي الله ، وما أوصى به ، حصل المقصود ، ولا يضرها ما تكنه نفس العامل .
و كيف يجوز كونها استفهاما فهي معلقة لفعل ( ينظر ) عن المفعول ، فالتقدير فينظر جواب السؤال بـ ( كيف تعملون ) ، ويجوز كونها مجردة عن معنى الاستفهام دالة على مجرد الكيفية ، فهي مفعول به لـ ( ينظر ) كما تقدم في قوله - تعالى -
هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء في سورة آل عمران ، وقوله - تعالى -
[ ص: 63 ] انظر كيف نبين لهم الآيات في سورة المائدة وقد تقدم .