[ ص: 68 ] وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين
جملة ( وقالوا ) معطوفة على جملة ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين الآية فهم قابلوا المصائب التي أصابهم الله بها ليذكروا ، بازدياد الغرور فأيسوا من التذكر بها ، وعاندوا
موسى حين تحداهم بها فقالوا : مهما تأتنا به من أعمال سحرك العجيبة فما نحن لك بمؤمنين ، أي : فلا تتعب نفسك في السحر .
و ( مهما ) اسم مضمن معنى الشرط ؛ لأن أصله ( ما ) الموصولة أو النكرة الدالة على العموم ، فركبت معها ( ما ) لتصييرها شرطية كما ركبت ( ما ) مع ( أي ) و ( متى ) و ( أين ) فصارت أسماء شرط ، وجعلت الألف الأولى هاء استثقالا لتكرير المتجانسين ، ولقرب الهاء من الألف فصارت مهما ، ومعناها : شيء ما ، وهي مبهمة فيؤتى بعدها بمن التبيينية ، أي : إن تأتنا بشيء من الآيات فما نحن لك بمؤمنين .
و ( مهما ) في محل رفع بالابتداء ، والتقدير : أيما شيء تأتينا به ، وخبره الشرط وجوابه ، ويجوز كونها في محل نصب لفعل محذوف يدل عليه ( تأتنا به ) المذكور . والتقدير : أي شيء تحضرنا تأتينا به .
وذكر ضمير ( به ) رعيا للفظ ( مهما ) الذي هو في معنى أي شيء ، وأنث ضمير بها رعيا لوقوعه بعد بيان مهما باسم مؤنث هو ( آية ) .
ومن ( آية ) بيان لإبهام ( مهما ) .
والآية : العلامة الدالة ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله - تعالى - والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار في سورة البقرة ، وفي قوله - تعالى - وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه في سورة الأنعام .
وسموا ما جاء به
موسى آية باعتبار الغرض الذي تحداهم به
موسى حين الإتيان بها ؛ لأن
موسى يأتيهم بها استدلالا على صدق رسالته ، وهم لا يعدونها آية ولكنهم جاروا
موسى في التسمية بقرينة قولهم لتسحرنا بها ، وفي ذلك
[ ص: 69 ] استهزاء كما حكى الله عن مشركي
أهل مكة وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون بقرينة قولهم : إنك لمجنون .
وجملة فما نحن لك بمؤمنين مفيدة المبالغة في القطع بانتفاء إيمانهم
بموسى لأنهم جاءوا في كلامهم بما حوته الجملة الاسمية التي حكته من الدلالة على ثبوت هذا الانتفاء ودوامه ، وبما تفيده الباء من توكيد النفي ، وما يفيده تقديم متعلق مؤمنين من اهتمامهم
بموسى في تعليق الإيمان به المنفي باسمه .
والفاء في قوله ( فأرسلنا ) لتفريع إصابتهم بهذه المصائب على عتوهم وعنادهم .
والإرسال : حقيقته توجيه رسول أو رسالة فيعدى إلى المفعول الثاني بإلى ويضمن معنى الإرسال من فوق ، فيعدى إلى المفعول الثاني بعلى ، قال - تعالى - وأرسل عليهم طيرا أبابيل وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم فحرف ( على ) دل على أن جملة أرسلنا مفرعة تفريع العقاب لا تفريع زيادة الآيات .
والطوفان : السيح الغالب من الماء الذي يغمر جهات كثيرة ويطغى على المنازل والمزارع . قيل هو مشتق من الطواف لأن الماء يطوف بالمنازل ، أي : تتكرر جريته حولها . ولم يدخل الطوفان الأرض التي كان بها
بنو إسرائيل وهي أرض " (
جاسان ) " .
والجراد : الحشرة الطائرة من فصيلة الصرصر والخنافس له أجنحة ستة ذات ألوان صفر وحمر تنتشر عند طيرانه ، يكون جنودا كثيرة يسمى الجند منها رجلا . وهو مهلك للزرع والشجر ، يأكل الورق والسنبل وورق الشجر وقشره ، فهو من أسباب القحط . أصاب أرض قوم فرعون ولم يصب أرض
بني إسرائيل .
والقمل : - بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة في القراءات المشهورة - اسم نوع من القراد عظيم يسمى الحمنان - بضم الحاء المهملة وميم ساكنة ونونين واحدته حمنانة - وهو يمتص دم الإنسان وهو غير القمل - بفتح القاف وسكون الميم الذي هو من الحشرات الدقيقة التي تكون في شعر الرأس وفي جلد الجسد يتكون من تعفن الجلد لوسخه ودسومته ومن تعفن جلد الرأس كثيرا - ، أصاب القبط جند كثير من الحمنان عسر الاحتراز عنه ولعله أصاب مواشيهم .
والضفادع جمع ضفدع وهو حيوان يمشي على أرجل أربع ويسحب بطنه على
[ ص: 70 ] الأرض ويسبح في المياه ، ويكون في الغدران ومناقع المياه ، صوته مثل القراقر يسمى نقيقا . أصابهم جند كثير منه يقع في طعامهم يرتمي إلى القدور ، ويقع في في العيون والأسقية وفي البيوت فيفسد ما يقع فيه وتطؤه أرجل الناس فتتقذر به البيوت ، وقد سلمت منه بلاد (
جاسان ) منزل
بني إسرائيل .
والدم معروف ، قيل : أصابهم رعاف متفش فيهم ، وقيل : صارت مياه القبط كالدم في اللون ، كما في التوراة ، ولعل ذلك من حدوث دود أحمر في الماء فشبه الماء بالدم ، وسلمت مياه (
جاسان ) قرية
بني إسرائيل .
وسمى الله هاته آيات لأنها
دلائل على صدق موسى لاقترانها بالتحدي ، ولأنها دلائل على غضب الله عليهم لتظافرها عليهم حين صمموا الكفر والعناد .
وانتصب ( آيات ) على الحال من الطوفان وما عطف عليه و ( مفصلات ) اسم مفعول من فصل المضاعف الدال على قوة الفصل . والفصل حقيقته التفرقة بين شيئين بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر ، ويستعار الفصل لإزالة اللبس والاختلاط في المعاني فـ ( مفصلات ) وصف لـ ( آيات ) ، فيكون مرادا منه معنى الفصل المجازي وهو إزالة اللبس ؛ لأن ذلك هو الأنسب بالآيات والدلائل ، أي : هي آيات لا شبهة في كونها كذلك لمن نظر نظر اعتبار .
وقيل : المراد أنها مفصول بعضها عن بعض في الزمان ، أي لم تحدث كلها في وقت واحد ، بل حدث بعضها بعد بعض ، وعلى هذا فصيغة التفعيل للدلالة على تراخي المدة بين الواحدة والأخرى ، ويجيء على هذا أن العذاب كان أشد وأطول زمنا كما دل عليه قوله - تعالى - وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، قيل : كان بين الآية منها والأخرى مدة شهر أو مدة ثمانية أيام ، وكانت تدوم الواحدة منها مدة ثمانية أيام وأكثر ، وعلى هذا الوجه فالأنسب أن يجعل ( مفصلات ) حالا ثانية من الطوفان والجراد ، وأن لا يجعل صفة ( آيات ) .
والفاء في قوله فاستكبروا للتفريع والترتب ، أي : فتفرع على إرسال الطوفان وما بعده استكبارهم ، كما تفرع على أخذهم بالسنين غرورهم بأن ذلك من شؤم
موسى ومن معه ، فعلم أن من طبع تفكيرهم فساد الوضع ، وهو انتزاع المدلولات
[ ص: 71 ] من أضداد أدلتها ، وذلك دليل على انغماسهم في الضلالة والخذلان ، وبعدهم عن السعادة والتوفيق ، فلا يزالون مورطين في وحل الشقاوة .
فالاستكبار : شدة التكبر كما دلت عليه السين والتاء ، أي : عد أنفسهم كبراء ، أي تعاظمهم عن التصديق
بموسى وإبطال دينهم إذ أعرضوا عن التصديق بتلك الآيات المفصلات .
وجملة ( وكانوا قوما مجرمين ) معطوفة على جملة ( فاستكبروا ) ، فالمعنى : فاستكبروا عن الاعتراف بدلالة تلك الآيات وأجرموا ، وإنما صيغ الخبر عن إجرامهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على ثبات وصف الإجرام فيهم ، وتمكنه منهم ، ورسوخه فيهم من قبل حدوث الاستكبار ، وفي ذلك تنبيه على أن وصف الإجرام الراسخ فيهم هو علة للاستكبار الصادر منهم ، فـ ( كان ) دالة على استمرار الخبر وهو وصف الإجرام . والإجرام : فعل الجرم وقد تقدم عند قوله - تعالى - وكذلك نجزي المجرمين في هذه السورة .