وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون
عطف على جملة وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون إلخ . . . والمقصود من هذا الخبر هو قوله بما صبروا تنويها بفضيلة الصبر وحسن عاقبته ، وبذلك الاعتبار عطفت هذه الجملة على التي قبلها ، وإلا فإن كلمة الله الحسنى على
بني إسرائيل تشمل إيراثهم الأرض التي بارك الله فيها ، فتتنزل من جملة وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون إلى آخرها منزلة التذييل الذي لا يعطف ، فكان مقتضى العطف هو قوله بما صبروا .
و ( كلمة ) : هي القول ، وهو هنا يحتمل أن يكون المراد به اللفظ الذي وعد الله
بني إسرائيل على لسان
موسى في قوله عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض أو على لسان
إبراهيم وهي وعد تمليكهم الأرض المقدسة ، فتمام الكلمة تحقق وعدها ، شبه تحققها بالشيء إذا استوفى أجزاءه ، ويحتمل أنها كلمة الله في علمه وقدره وهي إرادة الله إطلاقهم من استعباد القبط وإرادته تمليكهم الأرض المقدسة كقوله وكلمته ألقاها إلى مريم .
وتمام الكلمة بهذا المعنى ظهور تعلقها التنجيزي في
[ ص: 78 ] الخارج على نحو قول
موسى يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم وقد تقدم عند قوله - تعالى - وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا في سورة الأنعام .
و ( الحسنى ) : صفة لـ ( كلمة ) ، وهي صفة تشريف كما يقال الأسماء الحسنى ، أي كلمة ربك المنزهة عن الخلف ، ويحتمل أن يكون المراد حسنها
لبني إسرائيل ، وإن كانت سيئة على فرعون وقومه ؛ لأن العدل حسن وإن كان فيه إضرار بالمحكوم عليه .
والخطاب في قوله ( ربك ) للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ، أدمج في ذكر القصة إشارة إلى أن الذي حقق
نصر موسى وأمته على عدوهم هو ربك فسينصرك وأمتك على عدوكم لأنه ذلك الرب الذي نصر المؤمنين السابقين ، وتلك سنته وصنعه ، وليس في الخطاب التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف المراد من الضمائر .
وعدي فعل التمام بعلى للإشارة إلى تضمين ( تمت ) معنى الإنعام ، أو معنى ( حقت ) .
وباء " بما صبروا " للسببية ، و ( ما ) مصدرية أي بصبرهم على الأذى في ذات الإله وفي ذلك تنبيه على فائدة الصبر وأن الصابر صائر إلى النصر وتحقيق الأمل .
والتدمير : التخريب الشديد وهو مصدر دمر الشيء إذا جعله دامرا للتعدية متصرف من الدمار - بفتح الدال - وهو مصدر قاصر . يقال دمر القوم - بفتح الميم - يدمرون بضم الميم دمارا ، إذا هلكوا جميعا ، فهم دامرون . والظاهر أن إطلاق التدمير على إهلاك المصنوع مجازي علاقته الإطلاق لأن الظاهر أن التدمير حقيقته إهلاك الإنسان .
و " ما كان يصنع فرعون " : ما شاده من المصانع ، وإسناد الصنع إليه مجاز عقلي لأنه الآمر بالصنع ، وأما إسناده إلى قوم فرعون فهو على الحقيقة العقلية بالنسبة إلى القوم لا بالنسبة إلى كل فرد على وجه التغليب .
و ( يعرشون ) ينشئون من الجنات ذات العرايش . والعريش : ما يرفع من دوالي الكروم ، ويطلق أيضا على النخلات العديدة تربى في أصل واحد ولعل جنات القبط كانت كذلك كما تشهد به بعض الصور المرسومة على هياكلهم نقشا ودهنا ، وقد تقدم في قوله - تعالى -
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات في سورة الأنعام
[ ص: 79 ] وفعله عرش - من بابي ضرب ونصر - وبالأول قرأ الجمهور ، وقرأ بالثاني
ابن عامر ، وأبو بكر عن
عاصم ، وذلك أن الله خرب ديار فرعون وقومه المذكورين ، ودمر جناتهم بما ظلموا بالإهمال ، أو بالزلزال ، أو على أيدي جيوش أعدائهم الذين ملكوا
مصر بعدهم ، ويجوز أن يكون ( يعرشون ) بمعنى يرفعون أي يشيدون من البناء مثل مباني الأهرام والهياكل وهو المناسب لفعل ( دمرنا ) ، شبه البناء المرفوع بالعرش . ويجوز أن يكون ( يعرشون ) استعارة لقوة الملك والدولة ويكون دمرنا ترشيحا للاستعارة .
وفعل ( كان ) في الصلتين دال على أن ذلك دأبه وهجيراه ، أي ما عني به من الصنائع والجنات . وصيغة المضارع في الخبرين عن ( كان ) للدلالة على التجدد والتكرر .