سأوريكم دار الفاسقين
كلام موجه إلى
موسى - عليه السلام - فيجوز أن يكون منفصلا عن الكلام الذي قبله فيكون استئنافا ابتدائيا : هو وعد له بدخولهم الأرض الموعودة ، ويجوز أن تكون الجملة متصلة بما قبلها فتكون من تمام جملة
وأمر قومك يأخذوا بأحسنها على أنها تحذير من التفريط في شيء مما كتب له في الألواح ، والمعنى سأبين لكم عقاب الذين لا يأخذون بها .
والدار : المكان الذي تسكنه العائلة ، كما في قوله - تعالى -
فخسفنا به وبداره الأرض في سورة القصص والمكان الذي يحله الجماعة من حي أو قبيلة كما قال - تعالى -
فأصبحوا في دارهم جاثمين وقد تقدم . وتطلق الدار على ما يكون عليه الناس أو المرء من حالة مستمرة ومنه قوله - تعالى -
فنعم عقبى الدار . وقد يراد بها مآل المرء ومصيره لأنه بمنزلة الدار يأوي إليه في شأنه ، وقد تقدم قريب من هذا عند قوله - تعالى -
فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار في سورة الأنعام .
وخوطب بضمير الجمع باعتبار من معه من أصحابه شيوخ
بني إسرائيل ، أو باعتبار
[ ص: 102 ] جماعة قومه فالخطاب شامل
لموسى ومن معه .
والإراءة من ( رأى ) البصرية لأنها عديت إلى مفعولين فقط .
وأوثر فعل أريكم دون نحو : سأدخلكم ؛ لأن الله منع معظم القوم الذين كانوا مع
موسى من دخول الأرض المقدسة لما امتنعوا من قتال
الكنعانيين كما تقدم في قوله - تعالى - قال
فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض في سورة المائدة . وجاء ذلك في التوراة في سفر التثنية في الإصحاح الأول : أن الله قال
لموسى " وأنت لا تدخل إلى هناك " وفي الإصحاح " وصعد
موسى إلى الجبل ( نبو ) فأراه الله جميع الأرض وقال له هذه الأرض التي أقسمت
لإبراهيم قائلا لنسلك أعطيها قد أريتك إياها بعينيك ولكنك لا تعبر " .
ويجوز أن يكون سأريكم خطابا لقوم
موسى فيكون فعل أريكم كناية عن الحلول في دار الفاسقين ؛ والحلول في ديار قوم لا يكون إلا للفتح والغلبة ، فالإراءة رمز إلى الوعد بفتح بلاد الفاسقين ، والمراد بالفاسقين المشركون ، فالكلام وعد
لموسى وقومه بأن يفتحوا ديار الأمم الحالة بالأرض المقدسة التي وعدهم الله بها وهم المذكورون في التوراة في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج خطابا للشعب " احفظ ما أنا موصيك به ها أنا طارد من قدامك
الأموريين ، والكنعانيين ، والحثيين ، والفرزيين ، والحويين ، واليبوسيين ، احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم فإنك لا تسجد لإله آخر " .
ويؤيده ما روي عن
قتادة أن دار الفاسقين هي دار العمالقة والجبابرة ، وهي
الشام ، فمن الخطأ تفسير من فسروا دار الفاسقين بأنها أرض
مصر فإنهم قد كانوا بها وخرجوا منها ولم يرجعوا إليها ، ومن البعيد تفسير دار الفاسقين بجهتهم وفي الإصحاح : 34 من سفر الخروج " احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن " . ولا يخفى حسن مناسبة التعبير عن أولئك الأقوام بالفاسقين على هذا الوجه .
[ ص: 103 ] وقيل المراد بدار الفاسقين ديار الأمم الخالية مثل ديار
ثمود وقوم لوط الذين أهلكهم الله لكفرهم ، أي ستمرون عليهم فترون ديارهم فتتعظون بسوء عاقبتهم لفسقهم ، وفيه بعد لأن
بني إسرائيل لم يمروا مع
موسى على هذه البلاد .
والعدول عن تسمية الأمم بأسمائهم إلى التعبير عنهم بوصف الفاسقين لأنه أدل على تسبب الوصف في المصير الذي صاروا إليه ، ولأنه أجمع وأوجز ، واختيار وصف الفاسقين دون المشركين والظالمين الشائع في التعبير عن الشرك في القرآن للتنبيه على أن عاقبتهم السوأى تسببت على الشرك وفاسد الأفعال معا .