(
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) لما نفى عنهم أن يكونوا ولاة البيت ذكر من فعلهم القبيح ما يؤكد ذلك ، وأن من كانت صلاته ما ذكر لا يستأهل أن يكونوا أولياءه ، فالمعنى - والله أعلم - أن الذي يقوم مقام صلاتهم هو المكاء والتصدية ، وضعوا مكان الصلاة والتقرب إلى الله التصفير والتصفيق ، كانوا يطوفون عراة ، رجالهم ونساؤهم ، مشبكين بين أصابعهم يصفرون ويصفقون ، يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم يخلطون عليه في صلاته ، ونظير هذا المعنى قولهم : كانت عقوبتك عزلتك ، أي : القائم مقام العقوبة هو العزل . وقال الشاعر :
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو مدحرجة سمرا
أقام مقام العطاء القيود والسياط ، كما أقاموا مقام الصلاة المكاء والتصدية ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : كان ذلك عبادة في ظنهم ، قال
ابن عطية : لما نفى تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول : كيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده فقطع الله هذا الاعتراض ، وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية ، كما يقول الرجل : أنا أفعل الخير ، فيقال له : ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل ، أي : هذه عادتك وغايتك ، قال : والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب والتشرع ، وروي عن بعض أقوياء العرب أنه
[ ص: 492 ] كان يمكو على
الصفا فيسمع من جبل
حراء وبينهما أربعة أميال ، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقيصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة ، إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب ، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ومجاهد والسدي : والمكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق ، وعن
مجاهد أيضا : المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم ، والتصدية الصفير ، والصفير بالفم ، وقد يكون بالأصابع والكف في الفم ، قاله
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=12031وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقد يشارك الأنف ، يريدون أن يشغلوا بذلك الرسول عن الصلاة ، وقال
ابن جبير وابن زيد : التصدية صدهم عن البيت ، وقال
ابن بحر : إن صلاتهم ودعاءهم غير رادين عليهم ثوابا إلا كما يجيب الصدى الصائح ، فتلخص في معنى الآية ثلاثة أقوال : أحدها : ما ظاهره أن الكفار كانت لهم صلاة وتعبد ، وذلك هو المكاء والتصدية ، والثاني : أنه كانت لهم صلاة ولا جدوى لها ولا ثواب ، فجعلت كأنها أصوات الصدا حيث لها حقيقة ، والثالث : أنه لا صلاة لهم لكنهم أقاموا مقامها المكاء والتصدية ، وقال بعض شيوخنا : أكثر أهل العلم على أن الصلاة هنا هي الطواف ، وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11793أبان بن تغلب وعاصم nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش بخلاف عنهما ( صلاتهم ) بالنصب ( إلا مكاء وتصدية ) بالرفع ، وخطأ قوم منهم
أبو علي الفارسي هذه القراءة لجعل المعرفة خبرا والنكرة اسما ، قالوا : ولا يجوز ذلك إلا في ضرورة ، كقوله :
يكون مزاجها عسل وماء
وخرجها
أبو الفتح على أن المكاء والتصدية اسم جنس ، واسم الجنس تعريفه وتنكيره واحد ، انتهى ، وهو نظير قول من جعل نسلخ صفة لليل في قوله : (
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) ويسبني صفة للئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وقرأ
أبو عمرو فيما روي عنه : إلا مكا ، بالقصر منونا ، فمن مد فكالثغاء والرغاء ، ومن قصر فكالبكا في لغة من قصر ، والعذاب في قوله : فذوقوا العذاب ، قيل هو في الآخرة ; وقيل : هو قتلهم وأخذ غنائمهم
ببدر وأسرهم ، قال
ابن عطية : فيلزم أن تكون هذه الآية الأخيرة نزلت بعد
بدر ولا بد ، والأشبه أن الكل بعد
بدر حكاية عن ماض ، وكون عذابهم بالقتل يوم
بدر هو قول
الحسن والضحاك nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج .
(
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) قال
مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم
بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا :
أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا
ربيعة ونبيه ومنبه ابنا
حجاج وأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحارث nindex.php?page=showalam&ids=137وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود nindex.php?page=showalam&ids=1852والحارث بن عامر بن نوفل nindex.php?page=showalam&ids=18والعباس بن عبد المطلب ، وكلهم من
قريش ، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزائر ، وقال
مجاهد والسدي nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير وابن أبزى : نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان بن حرب استأجر يوم
أحد ألفين من
الأحابيش يقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب ، وفيهم يقول
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك :
فجئنا إلى موج من البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن بقية ثلاث مئين إن كثرنا وأربع
وقال
الحكم بن عيينة : أنفق على
الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من ذهب ، وقال
الضحاك وغيره : نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى
بدر كانوا ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما تسعا ، وهذا نحو من القول الأول ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق عن رجاله : لما رجع فل
قريش إلى
مكة من
بدر ، ورجع
أبو سفيان بعيره كلم أبناء من أصيب
ببدر وغيرهم
أبا سفيان ، وتجار العير في الإعانة بالمال الذي سلم لعلنا ندرك
[ ص: 493 ] ثأرا لمن أصيب ، ففعلوا فنزلت ، وروي نحوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان ،
وعاصم بن عمرو بن قتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15722والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر من شرح أحوالهم في الطاعات البدنية - وهي صلاتهم - شرح حالهم في الطاعات المالية - وهي إنفاقهم أموالهم للصد عن سبيل الله - والظاهر الإخبار عن الكفار بأن إنفاقهم ليس في سبيل الله ، بل سببه الصد عن سبيل الله فيندرج هؤلاء الذين ذكروا في هذا العموم ، وقد يكون اللفظ عاما والسبب خاصا ، والمعنى : أن الكفار يقصدون بنفقتهم الصد عن سبيل الله وغلبة المؤمنين ، فلا يقع إلا عكس ما قصدوا ، وهو تندمهم وتحسرهم على ذهاب أموالهم ، ثم غلبتهم والتمكن منهم أسرا وقتلا وغنما ، والعطف بثم يقوي أن الحسرة في الدنيا ; وقيل : الحسرة في الآخرة ، وفي الآخرة فسينفقونها إلى آخره من الإخبار بالغيوب ; لأنه أخبر بما يكون قبل كونه ، ثم كان كما أخبر ، والإخبار بسين الاستقبال يدل على إنفاق متأخر عن وقعة
أحد وبدر ، وأن ذلك إخبار عن علو الإسلام وغلبة أهله ، وكذا وقع فتحوا البلاد ودوخوا العباد وملأ الإسلام معظم أقطار الأرض واتسعت هذه الملة اتساعا لم يكن لشيء من الملل السابقة .