[ ص: 2 ] سورة التوبة مائة وثلاثون آية مدنية
(
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمونكيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون )
[ ص: 3 ] المرصد : مفعل من رصد يرصد رقب ، يكون مصدرا وزمانا ومكانا . وقال
عامر بن الطفيل :
ولقد علمت وما إخالك ناسيا أن المنية للفتى بالمرصد
الإل : الحلف والجؤار ، ومنه قول
أبي جهل .
لإل علينا واجب لا نضيعه متين قواه غير منتكث الحبل
كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ، من الآل وهو الجؤار ، وله أليل أي أنين يرفع به صوته ، وقيل : القرابة . وأنشد
أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر :
أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإل وأعراق الرحم
وظاهر البيت أنه في العهد . ومن القرابة قول
حسان :
لعمرك إن إلك من قريش كإل السقب من رأل النعام
وسميت إلا ; لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق . وقيل : من أل البرق لمع . وقال
الأزهري : الأليل : البريق ، يقال : أل يؤل صفا ولمع . وقال
القرطبي : مأخوذ من الحدة ، ومنه الإلة الحربة . وأذن مؤللة محددة ، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة : إل فمعناه : أن الأذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها ، والعهد يسمى إلا لصفائه ، ويجمع في القلة الآل وفي الكثرة الأل ، وأصل جمع القلة أألل ، فسهلت الهمزة الساكنة
[ ص: 4 ] التي هي فاء الكلمة فأبدلها ألفا ، وأدغمت اللام في اللام . الذمة : العهد ، وقال
أبو عبيدة : الأمان ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : كل ما يجب أن يحفظ ويحمى .
أبى يأبى : منع ، قال :
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فأفصى والسيوف معاقله
وقال :
أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
ومجئ مضارعه على فعل بفتح العين شاذ ، ومنه
آبي اللحم لرجل من الصحابة .
شفاه : أزال سقمه . العشيرة : جماعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة . اقترف : اكتسب . كسد الشيء كسادا وكسودا : بار ولم يكن له نفاق . الموطن : الموقف والمقام ، قال الشاعر :
وكم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوى
ومثله الوطن .
حنين : واد بين
مكة والطائف ، وقيل : واد إلى جنب
ذي المجاز . العيلة : الفقر ، عال يعيل : افتقر ، قال :
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
الجزية : ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام ، سميت بذلك ; لأنهم يجزونها أي يقضونها ، أو لأنها تجزى بها من من عليهم بالإعفاء عن القتل .
المضاهاة : المماثلة والمحاكاة ،
وثقيف تقول : المضاهأة بالهمز ، وقد ضاهأت ، فمادتها مخالفة للتي قبلها ، إلا إن كان ضاهت يدعى أن أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت : توضيت ، وقريت ، وأخطيت فيمكن . وأما ضهيأ بالهمز مقصورا فهمزته زائدة كهمزة عرفئ ، أو ممدودا فهمزته للتأنيث زائدة ، أو ممدودا بعده هاء التأنيث ، حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=13823البحتري عن
nindex.php?page=showalam&ids=12112أبي عمرو الشيباني في النوادر ، قال : جمع بين علامتي تأنيث . ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض ، أو التي لا ثدي لها ، شابهت بذلك الرجال . فمن زعم أن المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ ; لاختلاف المادتين ، لأصالة همزة المضاهأة ، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث .
(
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ) ; هذه السورة مدنية كلها ، وقيل : إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا
بمكة ، وهذا قول الجمهور . وذكر المفسرون لها اسما واختلافا في سبب ابتدائها بغير بسملة ، وخلافا عن الصحابة : أهي والأنفال سورة واحدة ، أو سورتان ؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك ، فأخلينا كتابنا منه ، ويطالع ذلك في كتب المفسرين .
ويقال : برئت من فلان أبرأ براءة ; أي انقطعت بيننا العصمة ، ومنه برئت من الدين . وارتفع ( براءة ) على الابتداء ، والخبر إلى الذين عاهدتم ، ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، أو على إضمار مبتدأ ؛ أي : هذه براءة . وقرأ
عيسى بن عمر ( براءة ) بالنصب ، قال
ابن عطية : أي الزموا ، وفيه معنى الإغراء ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : اسمعوا براءة .
قال : فإن قلت : بم تعلقت البراءة ، بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين ؟ قلت : قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولا ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب
[ ص: 5 ] الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدد من ذلك ، فقيل لهم : اعلموا أن الله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين . وقال
ابن عطية : لما كان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لازما لجميع أمته حسن أن يقول : عاهدتم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق وغيره : كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا عاما على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ، ونحو هذا من الموادعات ، فنقض ذلك بهذه الآية ، وأحل لجميعهم أربعة أشهر ، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها ، ومن كان أمده أكثر أتم له عهده ، وإذا كان ممن يحتسب منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر ، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض ، أي يذهب فيها مسرحا آمنا .
وظاهر لفظة ( من المشركين ) العموم ، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي
مكة وغيرهم . وروي أنهم نكثوا إلا
بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين . وقال
مقاتل : المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب :
خزاعة ،
وبنو مدلج ،
وبنو خزيمة . وقيل : هذه الآية في أهل
مكة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم صالح
قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، فدخلت
خزاعة في عهد الرسول ،
وبنو بكر بن عبد مناة في عهد
قريش ، وكان
لبني الديل من
بني بكر دم عند
خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة
خزاعة ، فخرج
نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من
بني بكر ، وبيتوا
خزاعة فاقتتلوا ، وأعانت
قريش بني بكر بالسلاح ، وقوم أعانوهم بأنفسهم ، فهزمت
خزاعة إلى الحرم ، فكان ذلك نقضا لصلح الحديبية ، فخرج من
خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم ، فقدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم مستغيثين ، وأنشده
عمرو فقال :
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنت لنا أبا وكنا ولدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا عتدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالحطيم هجدا وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لا نصرت إن لم أنصركم " ، فتجهز إلى
مكة وفتحها سنة ثمان ، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف ، فجعل المشركون ينقضون عهودهم ، فأمره الله تعالى بإلقاء عهدهم إليهم ، وأذن في الحرب .
( فسيحوا ) أمر إباحة ، وفي ضمنه تهديد ، وهو التفات من غيبة إلى خطاب ; أي : قل لهم : سيحوا . يقال : ساح سياحة وسوحا وسيحانا ، ومنه سيح الماء ; وهو الجاري المنبسط . وقال
طرفة :
لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلا أمامي تسيح
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري : أول الأشهر شوال حتى نزلت الآية ، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين ، فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول ، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي وغيره : أولها يوم الأذان ، وآخرها العشر من ربيع الآخر . وقيل : العشر من ذي القعدة إلى عشرين من شهر ربيع الأول ; لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك
[ ص: 6 ] الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة .
( غير معجزي الله ) ; لا تفوتونه وإن أمهلكم وهو مخزيكم ; أي : مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة بالعذاب . وحكى
أبو عمرو عن أهل نجران : أنهم يقرءون ( من الله ) بكسر النون على أصل التقاء الساكنين ، واتباعا لكسرة النون .