(
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ) : تقدم تفسير مثل هذا الكلام ، ومساقه هنا باعتبارين : أحدهما : أنه لما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق ، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذبا ; كما قال : (
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) وقد قام الدليل القاطع على أن هذا القرآن هو من عند الله ، وقد كذبتم بآياته ، فلا أحد أظلم منكم . والاعتبار الثاني : أن ذلك توطئة لما يأتي بعده من عبادة الأوثان ، أي : لا أحد أظلم منكم في افترائكم على الله أن له شريكا ، وأن له ولدا ، وفيما نسبتم إليه من التحليل والتحريم .
(
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) : الضمير في ( ويعبدون ) عائد على كفار
قريش الذين تقدمت محاورتهم . و (
ما لا يضرهم ولا ينفعهم ) هو الأصنام ، جماد لا تقدر على نفع ولا ضر . قيل : إن عبدوها لم تنفعهم ، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم . ومن حق المعبود أن يكون مثيبا على الطاعة معاقبا على المعصية ، وكان أهل
الطائف يعبدون اللات ، وأهل
مكة العزى ومناة وأسافا ونائلة وهبل ، والإخبار بهذا عن الكفار هو على سبيل التجهيل والتحقير لهم ولمعبوداتهم ، والتنبيه على أنهم عبدوا من لا يستحق العبادة . وفي قوله : ( من دون الله ) دلالة على أنهم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون الله . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق : يعنون في الآخرة . وقال
النضر بن الحارث : إذا كان يوم القيامة شفعت في اللات والعزى . وقال
الحسن : شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا .
[ ص: 134 ] لأنهم لا يقرون بالبعث . و ( أتنبئون ) استفهام على سبيل التهكم بما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأن الذي أنبئوا به باطل غير منطو تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه ، و " ما " موصولة بمعنى الذي .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : بكونهم شفعاء عنده ، وهو إنباء ما ليس بمعلوم لله تعالى ، وإذا لم يكن معلوما له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات لم يكن شيئا ؛ لأن الشيء ما يعلم ويخبر عنه ، فكان خبرا ليس له مخبر عنه . انتهى . فتكون " ما " واقعة على الشفاعة ، والفاعل بـ ( يعلم ) هو الله ، والمفعول الضمير المحذوف العائد على " ما " . وقوله : (
في السماوات ولا في الأرض ) تأكيد لنفيه ؛ لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري . وفي التحرير : ( أتنبئون ) معناه التهكم والتقريع والتوبيخ والإنكار ، والمعنى على هذا : أتخبرون الله بما يعلم خلافه في السماوات والأرض ، فإن صفات الذات لا يجري فيها النفي . وقيل : أتخبرون الله بما لا يعلمه موجودا في السماوات والأرض ، فكيف يصح وجود ما لا يعلمه الله ، وهو كما يقال للرجل : قد قلت كذا ، فيقول : ما علم الله هذا مني ، أي ما كان هذا قط ، إذ لو كان لعلمه الله . انتهى .
والذي يظهر أن " ما " موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي ادعوها ، والفاعل بـ ( يعلم ) ضمير يعود على " ما " ، لا على الله ، وذلك على حذف مضاف ، والمعنى : قل أتعلمون الله بشفاعة الأصنام التي انتفى علمها في السماوات والأرض ، أي : ليست متصفة بعلم ألبتة ، فيكون ذلك ردا عليهم في دعواهم أنها تشفع عند الله ؛ لأن من كان منتفيا عنه العلم فكيف يشفع وهو لا يعلم من يشفع فيه ، ولا ما يشفع فيه ، ولا من تشفع عنده ؟ كما رد عليهم في العبادة بقوله : (
ما لا يضرهم ولا ينفعهم ) ، فانتفاء الضر والنفع قادح في العبادة ، وانتفاء العلم قادح في الشفاعة ، فتبطل العبادة ودعوى الشفاعة ، ويكون قوله : ( في السماوات والأرض ) على هذا تنبيها على محال المعبودات المدعى شفاعتهم ، إذ من المعبودات السماوية الكواكب كالشمس والشعرى . وقرئ : (
أتنبئون ) بالتخفيف من أنبأ . ولما ذكر تعالى عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ، وكان ذلك إشراكا ; استأنف تنزيها بقوله سبحانه وتعالى . و " ما " يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، ومصدرية ، أي : شركائهم الذين يشركونهم به ، أو عن إشراكهم . وقرأ
العربيان والحرميان وعاصم : ( يشركون ) بالياء على الغيبة هنا ، وفي حرفي النحل ، وحرف في الروم . وذكر
أبو حاتم أنه قرأها كذلك
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش . وقرأ
ابن كثير ،
ونافع ،
وابن عامر في النمل فقط بالياء على الخطاب ،
وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة . وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي والخمسة بالتاء على الخطاب ، وأتى بالمضارع ، ولم يأت عن ما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم ، كما جاءوا يعبدون وإنهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في الماضي .
(
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) : لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام ، ذكر الحامل على ذلك ؛ وهو الاختلاف الحادث بين الناس ، والظاهر عموم الناس ، ويتصور في
آدم وبنيه إلى أن وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر ، وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب . وقال
الضحاك : المراد أصحاب سفينة
نوح ، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : من كان من ولد
آدم إلى زمان
إبراهيم ، ورد بأنه عبد في زمان
نوح عليه السلام الأصنام كود ، وسواع . وحكى
ابن القشيري أن الناس قوم
إبراهيم إلى أن غير الدين
عمرو بن لحي . وقال
ابن زيد : هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم (
ألست بربكم ) لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم . وقال
الأصم : هم الأطفال المولودون ، كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ ، وأبعد من ذهب إلى أن المراد بالناس هنا
آدم وحده ، وهو مروي عن
مجاهد ،
والسدي وعبر عنه بالأمة ؛ لأنه جامع لأنواع الخير . وهذه الأقوال هي
[ ص: 135 ] على أن المراد بـ ( أمة واحدة ) في الإسلام والإيمان . وقيل : في الشرك . وأريد : قوم
إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر ، فآمن بعضهم ، واستمر بعضهم على الكفر . أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف ، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآمن بعضهم ، أو العرب خاصة ، أقوال ، ثالثها
للزجاج . والظاهر أن المراد بقوله : ( أمة واحدة ) في الإسلام ، لأن هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام ، فلا يناسب أن يقوي عباد الأصنام . فإن الناس كانوا على ملة الكفر ، إنما المناسب أن يقال : إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه . وأيضا فقوله : ( ولولا كلمة ) هو وعيد ، فصرفه إلى أقرب مذكور - وهو الاختلاف - هو الوجه ، والاختلاف بسبب الكفر هو المقتضي للوعيد ، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان ، إذ لا يصلح أن يكون سببا للوعيد ، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله : (
كان الناس أمة واحدة ) ولكن أعدنا الكلام فيه لبعده .
والكلمة هنا هو القضاء ، والتقدير : لبني
آدم بالآجال المؤقتة . قال
ابن عطية : ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة ، وأن العقاب والثواب إنما يكون حينئذ . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلا فيما اختلفوا فيه ، وتمييز المحق من المبطل . وسبقت كلمة الله بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب . وقال
الكلبي : الكلمة أن الله أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة ، فلولا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب ، أو بإقامة الساعة . وقيل : الكلمة السابقة أن لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل . وقيل : الكلمة قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374541سبقت رحمتي غضبي ولولا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة .