(
ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) : هذا من اقتراحهم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم تنزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات ، دقيقة المسلك من بين المعجزات . وجعلوا نزولها كلا نزول ، فكأنه لم ينزل عليه قط حتى قالوا : لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه ، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغي . (
فقل إنما الغيب لله ) ، أي : هو المختص بعلم الغيب المستأثر به ، لا علم لي ولا لأحد به . يعني : أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه . ( فانتظروا ) نزول ما اقترحتموه (
إني معكم من المنتظرين ) بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات . وقال
ابن عطية : آية من ربه ، آية تضطر الناس إلى الإيمان ، وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط ، ولا من المعجزات اضطرارية ، وإنما هي معرضة للنظر ليهتدي قوم ويضل آخرون ، فقل إنما الغيب لله إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، لا يطلع على غيبه في ذلك أحد . وقوله : ( فانتظروا ) وعيدا وقد صدقه الله تعالى بنصرته
محمدا صلى الله عليه وسلم . وقيل : الآية التي اقترحوا أن ينزل ما تضمنه قوله تعالى : (
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا ) الآية ، وقيل : آية كآية
موسى وعيسى كالعصا واليد البيضاء ، وإحياء الموتى ، طلبوا ذلك على سبيل التعنت .
(
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) :
[ ص: 136 ] لما ذكر تعالى قوله : (
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون ) الآية ، ثم ذكر قوله : (
وقالوا لولا نزل عليه آية ) وذلك على سبيل التعنت ، أخبر أن هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال ، وأن إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته ، وكان خليقا بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته . وإعراضهم عن الآيات نظير قوله : (
فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) . وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل
مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين ، فأتاه
أبو سفيان فقال : ادع لنا بالخصب ، فإن أخصبنا صدقنا ، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا ، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله عند زوال المكروه عنه ، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير . تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي ، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته . والرحمة هنا الغيث بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض ، والغنى بعد الفقر ، وما أشبه ذلك . ومعنى ( مستهم ) خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم ، ومعنى (
مكر في آياتنا ) التكذيب بالقرآن ، والشك فيه ، قاله الجماعة . وقال
مجاهد ومقاتل : الاستهزاء والتكذيب . وقال
أبو عبيدة : الرد والجحود . وحكى
الماوردي النفاق ; لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهو شبيه بما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : إن المكر أخفى الكيد . وقال
ابن عطية : والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار ، واطراح الشكر والخوف من العصاة . انتهى . والإذاقة والمس هنا مجازان ، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن
آدم من حالة الخير إلى حالة الشر ، وذلك بلفظ ( أذقنا ) ، كأنه قيل : أول ذوقه الرحمة قبل أن يداوم استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية ، أي : ينشئ المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك . وبلفظ " إذا " الفجائية الواقعة جوابا لـ " إذا " الشرطية ، أي : في وقت إذاقة الرحمة فوجئوا بالمكر . ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم ; قيل : (
قل الله أسرع مكرا ) ، فجاءت أفعل التفضيل . ومعنى وصف المكر بالأسرعية : أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم ، وهو موقعه بكم ، واستدرجكم بإمهاله . قال
ابن عطية : أسرع من سرع ، ولا يكون من أسرع يسرع ، حكى ذلك
أبو علي . ولو كان من أسرع لكان شاذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نار جهنم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374542لهي أسود من القار وما حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ . انتهى . وقيل : أسرع هنا ليست للتفضيل ، وحكاية ذلك عن
أبي علي . هو مذهب . وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب : المنع مطلقا وما ورد من ذلك فهو شاذ ، والجواز مطلقا ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع ، أو لغير النقل فيجوز ، نحو : أشكل الأمر وأظلم الليل ، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو ، وأما تنظير ( أسود من القار ) بأسرع ففاسد ، لأن ( أسود ) ليس فعله على وزن أفعل ، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود ، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سود وحمر وأدم إلا لكونه لونا ، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقا ، وبعضهم في السواد والبياض فقط .
والرسل هنا الحفظة بلا خلاف . والمعنى : أن ما تظنونه خافيا مطويا عن الله لا يخفى عليه ، وهو منتقم منكم . وقرأ
الحسن وابن أبي إسحاق ،
وأبو عمرو : ( رسلنا ) بالتخفيف . وقرأ
الحسن ،
وقتادة ،
ومجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج ، ورويت عن
نافع : ( يمكرون ) على الغيبة جريا على ما سبق . وقرأ
أبو رجاء ،
وشيبة ،
وأبو جعفر ،
وابن أبي إسحاق ،
وعيسى ،
وطلحة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش ،
والجحدري ،
وأيوب بن المتوكل ،
وابن محيصن ،
وشبل ، وأهل
مكة ، والسبعة : بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم ، والتفاتا لقوله : ( قل الله ) ، أي : قل لهم ، فناسب الخطاب . وفي قوله :
[ ص: 137 ] (
إن رسلنا ) التفات أيضا ، إذ لم يأت : إن رسله . وقال
أيوب بن المتوكل في مصحف
أبي : " يا أيها الناس إن الله أسرع مكرا ، وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون " ، وينبغي أن يحمل هذا على التفسير ، لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف ، والمحفوظ عن
أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف .