(
ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) ؟ تقدم الكلام في التبديل ، أي : من يأخذ الكفر بدل الإيمان ، وهذه كناية عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر ، كما جاء في قوله : (
اشتروا الضلالة بالهدى ) . وفسر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري هذا بأن قال : ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها . وقال
أبو العالية : الكفر هنا : الشدة ، والإيمان : الرخاء . وهذا فيه ضعف ، إلا أن يريد أنهما مستعاران في الشدة على نفسه والرخاء لها عن العذاب والنعيم . وأما المعروف من شدة أمور الدنيا ورخائها ، فلا تفسر الآية بذلك ، والظاهر حمل الكفر والإيمان على حقيقتهما الشرعية ؛ لأن من سأل الرسول ما سأل مع ظهور المعجزات ووضوح الدلائل على صدقه ، كان سؤاله تعنتا وإنكارا ، وذلك كفر .
(
فقد ضل سواء السبيل ) : هذا جواب الشرط ، وقد تقدم الكلام على الضلال في قوله : (
ولا الضالين ) ، وعلى " سواء " في قوله : (
سواء عليهم أأنذرتهم ) ، وأن " سواء " يكون بمعنى مستو . ولذلك يتحمل الضمير في قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، ويوصف به : (
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) ، ويفسر بمعنى العدل والنصفة ؛ لأن ذلك مستو ، وقال
زهير :
أرونا خطة لا عيب فيها يسوي بيننا فيها السواء
ويفسر بمعنى الوسط . قال تعالى : (
فرآه في سواء الجحيم ) ، أي في وسطها . وقال
عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سواي ، وقال
حسان :
يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد
وبذلك فسر السواء في الآية
أبو عبيدة ، وفسره
الفراء بالقصد . ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى ، كنى عنها بالسبيل ، وجعل من حاد عنها : كالضال عن الطريق ، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان ، وأخرج ذلك في صورة شرطية ، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيرا عن ذلك ، وتبعيدا منه . فوبخهم أولا على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله ، وخاطبهم بذلك ، ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية . وأن مثل هذا ينبغي أن لا يقع ؛ لأنه ضلال عن المنهج القويم ، فصار صدر الآية إنكارا وتوبيخا ، وعجزها تكفيرا وضلالا . وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة . وإدغام الدال في الضاد من الإدغام الجائز . وقد قرئ : ( فقد ضل ) ، بالإدغام وبالإظهار في السبعة .
(
ود كثير من أهل الكتاب ) : المعني بكثير :
كعب بن الأشرف ، أو
حيي بن [ ص: 348 ] أخطب وأخوه
أبو ياسر ، أو نفر من
اليهود حاولوا المسلمين بعد وقعة أحد أن يرجعوا إلى دينهم ، أو
فنحاص بن عاذوراء وزيد بن قيس ونفر من
اليهود حاولوا
حذيفة وعمارا في رجوعهما إلى دينهم ، أقوال . والقرآن لم يعين أحدا ، إنما أخبر بودادة كثير من أهل الكتاب . والخلاف في سبب النزول مبني على الخلاف في تفسير كثير من أهل الكتاب ، وتخصصت الصفة بقوله : (
من أهل الكتاب ) ، فلذلك حسن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه . والكتاب هنا : التوراة .
(
لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ) : الكلام في لو هنا ، كالكلام عليها في قوله : (
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) . فمن قال : إنها مصدرية ، قال : لو ، والفعل في تأويل المصدر ، وهو مفعول ود : أي ود ردكم ، ومن جعلها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، جعل الجواب محذوفا ، وجعل مفعول ود محذوفا ، التقدير : ود ردكم كفارا ، لو يردونكم كفارا لسروا بذلك . وقال بعض الناس تقديره : لو يردونكم كفارا لودوا ذلك . فود دالة على الجواب ، ولا يجوز لود الأولى أن تكون هي الجواب ؛ لأن شرط لو أن تكون متقدمة على الجواب . انتهى . وهذا الذي قدره ليس بشيء ، لأنك إذا جعلت جواب لو قوله : لودوا ذلك ، كان ذلك دالا على أن الودادة لم تقع ؛ لأنه جواب للو ، وهو لما كان سيقع لوقوع غيره ، فامتنع وقوع الودادة ، لامتناع وقوع الرد . والغرض أن الودادة قد وقعت . ألا ترى إلى أقوال المفسرين في سبب نزول هذه الآية ؟ وهي وإن اختلفت فاتفقوا على وقوع الودادة ، وإن اختلفت أقوالهم بمن وقعت ، وتقدير جواب لو لودوا ذلك ، يدل على أن الودادة لم تقع ، فلذلك كان تقديره لسروا أو لفرحوا بذلك هو المتعين ، إذا جعلت لو تقتضي جوابا . ويرد هنا بمعنى يصير ، فيتعدى إلى مفعولين : الأول هو ضمير الخطاب ، والثاني كفارا ، وقد أعربه بعضهم حالا ، وهو ضعيف ؛ لأن الحال مستغنى عنها في أكثر مواردها ، وهذا لا بد منه في هذا المكان . ومن متعلقة بيرد ، وهي لابتداء الغاية ، وظاهر الواو في يردونكم أنها للجمع ، ومن فسر كثيرا بواحد أو باثنين ، فجعل الواو له أو لهما ، ليس على الأصل .
(
حسدا من عند أنفسهم ) : انتصاب حسدا على أنه مفعول من أجله ، والعامل فيه ود ، أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفارا هو الحسد ، وجوزوا فيه أن يكون مصدرا منصوبا على الحال ، أي حاسدين ، ولم يجمع لأنه مصدر ، وهذا ضعيف ؛ لأن جعل المصدر حالا لا ينقاس . وجوزوا أيضا أن يكون نصبه على المصدر ، والعامل فيه فعل محذوف يدل عليه المعنى ، التقدير : حسدوكم حسدا . والأظهر القول الأول ؛ لأنه اجتمعت فيه شرائط المفعول من أجله . ويتعلق المجرور الذي هو : (
من عند أنفسهم ) ، إما بملفوظ به وهو ود ، أي ودوا ذلك من قبل شهوتهم ، لا أن ودادتهم ذلك هي من جهة التدين واتباع الحق . ألا ترى إلى قوله تعالى : (
من بعد ما تبين لهم الحق ) ؟ وإما بمقدر ، فيكون في موضع الصفة ، التقدير : حسدا كائنا من عند أنفسهم . وعلى كلا التقديرين يكون توكيدا ، أي ودادتهم أو حسدهم من تلقائهم . ألا ترى أن ودادة الكفر والحسد على الإيمان لا يكون إلا من عند أنفسهم ؟ فهو نظير ، (
ولا طائر يطير بجناحيه ) . وقيل : يتعلق الجار والمجرور بقوله : يردونكم ، ومن سببية ، أي يكون الرد من تلقائهم وبإغوائهم وتزيينهم .
(
من بعد ما تبين لهم الحق ) : تتعلق من هذه بقوله : ود ، أي ودادتهم كفركم للحسد المنبعث من عند أنفسهم . وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم ، فليسوا من أهل الغباوة الذين قد يعزب عليهم وضوح الحق ، بل ذلك على سبيل الحسد والعناد . وهذا يدل على أن الكفر يكون عنادا . ألا ترى إلى ظاهر قوله : (
من بعد ما تبين لهم الحق ) ؟ قال
ابن عطية : واختلف أهل السنة في جواز ذلك . والصحيح عندي جوازه عقلا ، وبعده وقوعا ، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب من ثاني
[ ص: 349 ] حال من العناد . انتهى كلامه ، والألف واللام في الحق ، إما للعهد ، ويراد به الإيمان ، ويدل عليه جريانه قبل هذا ، أو الألف واللام للاستغراق ، أي من بعد ما اتضحت لهم وجوه الحق وأنواعه .
(
فاعفوا واصفحوا ) ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هي منسوخة بقوله : (
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ) . وقيل : بقوله : (
فاقتلوا المشركين ) ، وقال قوم : ليس هذا حد المنسوخ ؛ لأن هذا في نفس الأمر كان للتوقيف على مدته .
(
حتى يأتي الله بأمره ) : غيا العفو والصفح بهذه الغاية ، وهذه موادعة إلى أن أتى أمر الله بقتل
بني قريظة ، وإجلاء
بني النضير وإذلالهم بالجزية ، وغير ذلك مما أتى من أحكام الشرع فيهم وترك العفو والصفح . وقال
الكلبي : هو إسلام بعض واصطلام بعض . وقيل : آجال بني
آدم . وقيل : القيامة ، وقيل : المجازاة يوم القيامة . وقيل : قوة الرسالة وكثرة الأمة ، والجمهور على أنه الأمر بالقتال . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11958الباقر : أنه لم يؤمر بقتال حتى نزل (
أذن للذين يقاتلون ) ، والأمر بالعفو والصفح هو أن لا يقاتلوا وأن يعرض عن جوابهم فيكون أدعى لتسكين الثائرة وإطفاء الفتنة وإسلام بعضهم ، لا أنه يكون ذلك على وجه الرضا ؛ لأن ذلك كفر .
(
إن الله على كل شيء قدير ) : مر تفسير هذه الآية ، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين . ألا ترى أنه أمر بالموادعة بالعفو والصفح ، وغيا ذلك إلى أن يأتي الله بأمره ، ثم أخبر بأنه قادر على كل شيء ؟ .