[ ص: 361 ] (
وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية . و (
مد الأرض ) بسطها طولا وعرضا ليمكن التصرف فيها ، والاستقرار عليها . قيل : مدها ودحاها من
مكة من تحت البيت ، فذهبت كذا وكذا . وقيل : كانت مجتمعة عند
بيت المقدس فقال لها : اذهبي كذا وكذا . قال
ابن عطية : وقوله : (
مد الأرض ) يقتضي أنها بسيطة لا كرة ، وهذا هو ظاهر الشريعة . قال
أبو عبد الله الداراني : ثبت بالدليل أن
الأرض كرة ، ولا ينافي ذلك قوله : (
مد الأرض ) وذلك أن الأرض جسم عظيم ، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح ، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى . ألا ترى أنه قال : (
والجبال أوتادا ) مع أن العالم والناس يسيرون عليها فكذلك هنا . وأيضا إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجود الصانع ، وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس ، فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع ، فتأويل (
مد الأرض ) أنه جعلها بمقدار معين ، وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه ، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص مخصص ، وتقدير مقدر ، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع ، انتهى . ملخصا .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13719أبو بكر الأصم : المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه ، فالمعنى : جعل الأرض حجما يسيرا لا يقع البصر على منتهاه ، فإن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع بها ، انتهى . وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر . . . . . إلى آخره غير مسلم ؛ لأن المنتفع به من الأرض المعمور ، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير ، فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعا ، فتحصل في قوله : (
مد الأرض ) ثلاث تأويلات : بسطها بعد أن كانت مجتمعة ، واختصاصها بمقدار معين ، وجعل حجمها كبيرا لا يرى منتهاه . والرواسي : الثوابت ، ومنه قول الشاعر :
به خالدات ما يرمن وهامد وأشعث أرسته الوليدة بالفهر
والمعنى : جبالا رواسي ، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث ، إلا أن جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث ، وأيضا فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي ، وصارت الصفة تغني عن الموصوف ، فجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل . وقيل : (
رواسي ) جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، وهو : وصف الجبل . كانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها ، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم . قيل : من جهة أن طبيعة الأرض واحدة ، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم ، ومن جهة ما يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت ، يكون الجبل واحدا في الطبع ، وتأثير الشمس واحد دليل على أن ذلك بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة الممكنات ، ومن جهة تولد الأنهار منها . وقيل : وذلك لأن الجبل جسم صلب ، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتبي هناك ، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة ، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية . وكقوله : (
وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ) ، (
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا ) فقال المفسرون : الأنهار : المياه الجارية في الأرض . وقال
الكرماني : مسيل الماء ، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة . والظاهر أن قوله : ( من كل الثمرات ) متعلق بجعل . ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات . والزوج هنا : الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين ، يعني أنه
[ ص: 362 ] حين مد الأرض جعل ذلك ، ثم تكثرت وتنوعت . وقيل : أراد بالزوجين الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة .
وقال
ابن عطية : وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان ، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية . وقال
الكرماني : الزوج واحد ، والزوج اثنان ، ولهذا قيد ليعلم أن المراد بالزوج هنا الفرد لا التثنية ، فيكون أربعا ، وخص اثنين بالذكر ، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك ؛ لأنه الأقل ، إذ لا نوع تنقص أصنافه عن اثنين ، انتهى .
ويقال : إن في كل ثمرة ذكرا وأنثى ، وأشار إلى ذلك
الفراء . وقال
أبو عبد الله الرازي : لما خلق الله تعالى العالم وخلق فيه الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط . فلو قال : خلق زوجين ، لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص ، فلما قال : اثنين علمنا أنه أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد ، فالشجر والزرع كبني آدم ، حصل منهم كثرة ، وابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص وهما
آدم وحواء . والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من جهة ربو الجنة في الأرض ، وشق أعلاها وأسفلها ، فمن الشق الأعلى الشجرة الصاعدة ، ومن الأسفل العروق الغائصة ، وطبيعة تلك الجنة واحدة ، وتأثيرات الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ، ثم يخرج من الأعلى على ما يذهب صعدا في الهواء ، ومن الأسفل ما يغوص في الثرى ، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم . ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشبا ، وبعضها لوزا ، وبعضها ثمرا ، ثم تلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير القادر الحكيم ، انتهى . وفيه تلخيص .
وقيل : تم الكلام عند قوله : (
ومن كل الثمرات ) فيكون معطوفا على ما قبله من عطف المفردات ، ويتعلق بقوله : (
وجعل فيها رواسي ) فالمعنى : أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى اثنين ، وقيل : الزوجان الشمس والقمر ، وقيل : الليل والنهار (
يغشي الليل النهار ) تقدم تفسير هذه الجملة وقراآتها في الأعراف . وخص المتفكرين ؛ لأن ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكر .