صفحة جزء
[ ص: 487 ] ( ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) .

قرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص ( يحشرهم ) و ( فيقول ) بالياء فيهما . وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر بالنون فيهما . وقرأ باقي السبعة في ( نحشرهم ) بالنون [ ص: 488 ] وفي ( فيقول ) بالياء . وقرأ الأعرج ( يحشرهم ) بكسر الشين . قال صاحب اللوامح في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية ; لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي . وقال ابن عطية : وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس ; لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضم العين ، انتهى . وهذا ليس كما ذكرا بل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيرا ، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع ، وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خير فيهما سمعا للكلمة أو لم يسمعا .

( وما يعبدون ) ، قال الضحاك وعكرمة : الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله على هذه المقالة من الجواب . وقال الكلبي : يحيي الله الأصنام يومئذ لتكذيب عابديها . وقال الجمهور : من عبد ممن يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى ، وعزير ، وهو الأظهر كقوله : ( أأنتم أضللتم ) وما بعده من المحاورة التي ظاهرها أنها لا تصدر إلا من العقلاء ، وجاء ما يشبه ذلك منصوصا في قوله : ( ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) وسؤاله تعالى ، وهو عالم بالمسئول عنه ، ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فيزيد حسرتهم ويسر المؤمنون بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك ، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين . وجاء الاستفهام مقدما فيه الاسم على الفعل ، ولم يأت التركيب ( أأضللتم ) ولا أضلوا ; لأن كلا من الإضلال والضلال واقع والسؤال إنما هو من فاعله . وتقدم نظير هذا في ( أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ) وقال الزمخشري : وفيه كسر بين لقول من يزعم أن الله يضل عباده على الحقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه : ( أأنتم أضللتم ) أم ضلوا بأنفسهم فيتبرءون من ضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ، ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا الرحمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر ، وكان ذلك سبب هلاكهم ، فإذا تبرأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الضلال ، الذي هو عمل الشياطين إليهم ، واستعاذوا منهم فهم لربهم الغني العدل أشد تبرئة وتنزيها منه ، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها . وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة ، فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله : ( يضل من يشاء ) ، ولو كان هو المضل على الحقيقة ; لكان الجواب العتيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم ، انتهى . وهو على طريقة المعتزلة .

والمعنى ( أأنتم ) أوقعتم هؤلاء ونسبتم لهم في إضلالهم عن الحق ، أم ( ضلوا ) بأنفسهم عنه . وضل أصله أن يتعدى بعن كقوله : ( من يضل عن سبيله ) ، ثم اتسع فحذف ، وأضله عن السبيل كما أن هدى يتعدى بإلى ثم يحذف ، ويضل مطاوع أضل كما تقول : أقعدته فقعد . و ( سبحانك ) تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة فأنى لهم أن يقع منهم إضلال أحد وهم المنزهون المقدسون ، أن يكون أحد منهم ندا وهو المنزه عن الند والنظير .

وقال الزمخشري : ( سبحانك ) تعجب منهم مما قيل ; لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون ، فما أبعدهم عن الإضلال ، الذي هو مختص بإبليس وحزبه ، انتهى .

وقرأ علقمة ( ما ينبغي ) بسقوط ( كان ) وقراءة الجمهور بثبوتها أمكن في المعنى ; لأنهم أخبروا عن حال كانت في الدنيا ، ووقت الإخبار لا عمل فيه . وقرأ أبو عيسى الأسود القاري ( ينبغى لنا ) مبنيا للمفعول . وقال ابن خالويه : زعم سيبويه أن ينبغى لغة .

وقرأ الجمهور : ( أن نتخذ ) مبنيا للفاعل ، و ( من أولياء ) مفعول على زيادة ( من ) وحسن زيادتها انسحاب النفي على ( نتخذ ) ; لأنه معمول لـ ( ينبغي ) . وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقه ، وهو اتخاذ ولي من دون الله . ونظيره ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير ) [ ص: 489 ] أي : خير ، والمعنى ما كان يصح لنا ولا يستقيم ونحن معصومون أن نتولى أحدا دونك ، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك ؟ ! . وقال أبو مسلم : ( ما كان ينبغي لنا ) أن نكون أمثال الشياطين نريد الكفر فنتولى الكفار ، قال : ( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ) . وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت ، وأبو رجاء ، ونصر بن علقمة ، وزيد بن علي وأخوه الباقر ، ومكحول ، والحسن ، وأبو جعفر ، وحفص بن عبيد ، والنخعي ، والسلمي ، وشيبة ، وأبو بشر ، والزعفراني : ( أن يتخذ ) مبنيا للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد ، كقوله : ( أم اتخذوا آلهة من الأرض ) ، وعليه قراءة الجمهور ، وتارة إلى اثنين كقوله : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) ، فقيل : هذه القراءة منه ، فالأول الضمير في ( نتخذ ) ، والثاني ( من أولياء ) ، و ( من ) للتبعيض ، أي : لا يتخذ بعض أولياء ، وهذا قول الزمخشري .

وقال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول ( من ) في قوله : ( من أولياء ) ، اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره . وقال أبو الفتح : ( من أولياء ) في موضع الحال ، ودخلت ( من ) زيادة لمكان النفي المتقدم ، كما تقول : ما اتخذت زيدا من وكيل . وقيل : ( من أولياء ) هو الثاني على زيادة ( من ) ، وهذا لا يجوز عند أكثر النحويين ، إنما يجوز دخولها زائدة على المفعول الأول بشرطه . وقرأ الحجاج : أن نتخذ من دونك أولياء ، فبلغ عاصما فقال : مقت المخدج أوما علم أن فيها ( من ) ولما تضمن قولهم : ( ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ) أنا لم نضلهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن يستدرك بلكن ، والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعم ، وأطلت أعمارهم ، وكان يجب عليهم شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل ، فكان ذلك سببا للإعراض عن ذكر الله . قيل : ولكن متعتهم كالرمز إلى ما صرح به موسى من قوله : ( إن هي إلا فتنتك ) ، أي : أنت الذي أعطيتهم مطالبهم من الدنيا حتى صاروا غرقى في بحر الشهوات ، فكان صارفا لهم عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك ، والذكر ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء أو الكتب المنزلة أو القرآن . والبور : قيل مصدر يوصف به الواحد والجمع . وقيل : جمع بائر كعائذ وعوذ . قيل : معناه هلكى . وقيل : فسدى ، وهي لغة الأزد يقولون : أمر بائر ، أي : فاسد ، وبارت البضاعة : فسدت . وقال الحسن : لا خير فيهم ، من قولهم : أرض بور ، أي : معطلة لا نبات فيها . وقيل : ( بورا ) عميا عن الحق .

( فقد كذبوكم ) هذا من قول الله بلا خلاف وهي مفاجأة ، فالاحتجاج والإلزام حسنة رابعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات ، وهو على إضمار القول كقوله : ( يا أهل الكتاب ) إلى قوله ( فقد جاءكم ) ، أي فقلنا : قد جاءكم . وقول الشاعر :


قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا



أي : فقلنا قد جئنا ، وكذلك هذا ، أي : فقلنا قد كذبوكم ، فإن كان المجيب الأصنام فالخطاب للكفار ، أي : قد كذبتكم معبوداتكم من الأصنام بقولهم : ( ما كان ينبغي لنا ) ، وإن كان الخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير - عليهم السلام - ، وهو الظاهر ; لتناسق الخطاب مع قوله : ( أأنتم أضللتم ) ، أي : كذبكم المعبودون ( بما تقولون ) أي : بقولهم : إنكم أضللتموهم ، وزعمهم أنكم أولياؤهم من دون الله . ومن قرأ ( بما تقولون ) بتاء الخطاب ، فالمعنى فيما تقولون ، أي : ( سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ) . وقيل : الخطاب للكفار العابدين ، أي : كذبكم المعبودون بما تقولون من الجواب . ( سبحانك ما كان ينبغي لنا ) أو فيما تقولون أنتم من الافتراء عليهم خوطبوا على جهة التوبيخ والتقريع . وقيل : هو خطاب للمؤمنين في الدنيا ، أي : قد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد والشرع . وقرأ الجمهور ( بما تقولون ) بالتاء من فوق . وأبو حيوة وابن الصلت عن قنبل بالياء من تحت .

وقرأ حفص ، وأبو حيوة والأعمش وطلحة ( فما تستطيعون ) بتاء الخطاب ، ويؤيد هذه القراءة [ ص: 490 ] أن الخطاب في ( كذبوكم ) للكفار العابدين . وذكر عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرآ ( بما يقولون فما يستطيعون ) بالياء فيهما ، أي : هم . ( صرفا ) أي : صرف العذاب أو توبة أو حيلة من قولهم إنه ليتصرف ، أي : يحتال ، هذا إن كان الخطاب في ( كذبوكم ) للكفار ، فالتاء جارية على ذلك ، والياء التفات ، وإن كان للمعبودين فالتاء التفات . والياء جارية على ضمير ( كذبوكم ) المرفوع ، وإن كان الخطاب للمؤمنين أمة الرسول - عليه السلام - في قوله : ( فقد كذبوكم ) فالمعنى أنهم شديدو الشكيمة في التكذيب . ( فما تستطيعون ) أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك . وبالياء فما يستطيعون ( صرفا ) لأنفسهم عما هم عليه . أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه . ( ولا نصرا ) لأنفسهم من البلاء الذي استوجبوه بتكذيبهم .

( ومن يظلم منكم ) الظاهر أنه عام . وقيل : خطاب للمؤمنين . وقيل : خطاب للكافرين . والظلم هنا الشرك ; قاله ابن عباس ، والحسن وابن جريج ، ويحتمل دخول المعاصي غير الشرك في الظلم . وقال الزمخشري : العذاب الكبير لاحق لكل من ظلم والكافر ظالم ; لقوله : ( إن الشرك لظلم عظيم ) والفاسق ظالم ; لقوله : ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) ، انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . وقرئ : " يذقه " بياء الغيبة ، أي : الله وهو الظاهر . وقيل : هو ، أي : الظلم ، وهو المصدر المفهوم من قوله : ( بظلم ) ، أي : يذقه الظلم .

ولما تقدم الطعن على الرسول بأكل الطعام والمشي في الأسواق أخبر تعالى أنها عادة مستمرة في كل رسالة ، ومفعول ( أرسلنا ) عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف تقديره أحدا . وقدره ابن عطية رجالا أو رسلا . وعاد الضمير في ( إنهم ) على ذلك المحذوف ، كقوله : ( وما منا إلا له مقام ) أي : وما منا أحد ، والجملة عند هؤلاء صفة ، أعني قوله : ( إلا إنهم ) كأنه قال : إلا آكلين وماشين . وعند الفراء المفعول محذوف وهو موصول مقدر بعد إلا أي إلا من . ( إنهم ) والضمير عائد على ( من ) على معناها ، فيكون استثناء مفرغا ، وقيل : ( إنهم ) قبله قول محذوف ، أي : ( إلا ) قيل : ( إنهم ) ، وهذان القولان مرجوحان في العربية . وقال ابن الأنباري : التقدير إلا وإنهم ، يعني أن الجملة حالية ، وهذا هو المختار . وقد رد على من قال : إن ما بعد إلا قد يجيء صفة ، وأما حذف الموصول فضعيف ، وقد ذهب إلى حكاية الحال أيضا أبو البقاء ، قال : وقيل لو لم تكن اللام لكسرت ; لأن الجملة حالية إذ المعنى إلا وهم يأكلون . وقرئ ( أنهم ) بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية التقدير إلا أنهم يأكلون ، أي : ما جعلناهم رسلا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم . وقرأ الجمهور : ( ويمشون ) مضارع مشى خفيفا . وقرأ علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله ( يمشون ) مشددا مبنيا للمفعول ، أي : يمشيهم حوائجهم والناس . قال الزمخشري : ولو قرئ ( يمشون ) ; لكان أوجه لولا الرواية ، انتهى . وقد قرأ كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشددا مبنيا للفاعل ، وهي بمعنى ( يمشون ) قراءة الجمهور . قال الشاعر :


ومشى بأعطان المباءة وابتغى     قلائص منها صعبة وركوب



( وجعلنا بعضكم ) . قال ابن عطية : هو عام للمؤمن والكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الشاكر فتنة للغني ، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره ، وكذلك العلماء وحكام العدل . وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب ، انتهى . وروي قريب من هذه عن ابن عباس والحسن . قال ابن عطية : والتوقيف بأتصبرون خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمة محمد ، كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين ، أي : اختبارا ثم وقفهم . هل تصبرون أم لا ؟ ثم أعرب قوله : ( وكان ربك بصيرا ) عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين .

وقال الزمخشري : ( فتنة ) أي : محنة وبلاء ، وهذا تصبر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما قالوه واستبعدوه [ ص: 491 ] من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعدما احتج عليهم بسائر الرسل ، يقول : جرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض . والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل ، ونحوه ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) الآية . وموقع ( أتصبرون ) بعد ذكر الفتنة موقع ( أيكم ) بعد الابتلاء في قوله : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) .

( بصيرا ) عالما بالصواب فيما يبتلي به وبغيره ، فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم ، فإن في صبرك عليهم سعادة وفوزك في الدارين . وقيل : هو تسلية عما عيروه به من الفقر حين قالوا : ( أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة ) وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء ; لينظر هل تصبرون ؟ وأنها حكمته ومشيئته يغني من يشاء ويفقر من يشاء . وقيل : جعلناك فتنة لهم ; لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنات ; لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا ، وإنما بعثناك فقيرا ; لتكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي . وقيل : كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم يقولون : إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ، فرفعوا علينا إدلالا بالسابقة ، فهو افتتان بعضهم ببعض ، انتهى . وفيه تكثير ، وهذا القول الأخير قول الكلبي ، والفراء والزجاج . والأولى أن قوله : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) يشمل معاني هذه الألفاظ كلها ; لأن بين الجميع قدرا مشتركا . وقيل : في قوله : ( أتصبرون ) إنه استفهام بمعنى الأمر ، أي : اصبروا ، والظاهر حمل الرجاء على المشهور من استعماله ، والمعنى لا يأملون لقاءنا بالخير وثوابنا على الطاعة لتكذيبهم بالبعث لكفرهم بما جئت به . وقال أبو عبيدة وقوم : معناه لا يخافون . وقال الفراء : ( لا يرجون نشورا ) لا يخافون ، وهذه الكلمة تهامية ، وهي أيضا من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف . فتقول : فلان لا يرجو ربه يريدون لا يخاف ربه ، ومن ذلك ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) ، أي : لا تخافون لله عظمة ، وإذا قالوا : فلان يرجو ربه فهذا معنى الرجاء لا على الخوف . وقال الشاعر :


إذا لسعته النحل لم يرج لسعها     وحالفها في بيت نوب عوامل

وقال آخر :


لا ترتجي حين تلاقي الذائدا     أسبعة لاقت معا أم واحدا



انتهى . ومن لازم الرجاء للثواب الخوف من العقاب ، ومن كان مكذبا بالبعث لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا ، ومن تأول لم يرج لسعها على معنى لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها . فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله ، فتأويله ممكن ، لكن الفراء وغيره نقلوا ذلك لغة لهذيل في النفي ، والشاعر هذلي ; فينبغي أن لا يتكلف للتأويل وأن يحمل على لغته .

( لولا أنزل علينا الملائكة ) فتخبرنا أنك رسول حقا . ( أو نرى ربنا ) فيخبرنا بذلك ; قاله ابن جريج وغيره . وهذه كما قالت اليهود : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) ، وكقولهم - أعني المشركين - : ( أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ) ، وهذا كله في سبيل التعنت ، وإلا فما جاءهم به من المعجزات كاف لو وفقوا . ( لقد استكبروا ) ، أي : تكبروا . ( في أنفسهم ) ، أي : عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله ، وهم ليسوا بأهل لها . والمعنى أن سؤال ذلك إنما هو لما أضمروا في أنفسهم من الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد الكامن في قلوبهم الظاهر عنه ما لا يقع لهم ، كما قال : ( إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) ، واللام في ( لقد ) جواب قسم محذوف ، و ( عتوا ) تجاوزوا الحد في الظلم ووصفه بكبير مبالغة في إفراطه ، أي لم يجسروا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو . وجاء هنا [ ص: 492 ] ( عتوا ) على الأصل ، وفي مريم ( عتيا ) على استثقال اجتماع الواوين والقلب لمناسبة الفواصل . قال ابن عباس : ( عتوا ) كفروا أشد الكفر وأفحشوا . وقال عكرمة : تجبروا . وقال ابن سلام : عصوا . وقال ابن عيسى : أسرفوا . قال الزمخشري : هذه الجملة في حسن استيفائها غاية في أسلوبها . ونحوه قول القائل :


وجارة جساس أبأنا بنابها كليبا     غلت ناب كليب بواؤها



في نحو هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب ، ألا ترى أن المعنى ما أشد استكبارهم ، وما أكثر عتوهم ، وما أغلى نابا بواؤها كليب .

( يوم يرون الملائكة ) ( يوم ) منصوب بـ ( اذكر ) ، وهو أقرب أو بفعل يدل عليه ( لا بشرى ) ، أي : يمنعون البشرى ولا يعمل فيه ( لا بشرى ) ; لأنه مصدر ; ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس ; لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وكذا الداخلة على الأسماء عاملة عمل ليس ، ودخول ( لا ) على ( بشرى ) ; لانتفاء أنواع البشرى ، وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة ; لقوله بعد ( وقدمنا إلى ما عملوا ) . وعن ابن عباس : عند الموت ، والمعنى أن هؤلاء الذين اقترحوا نزول الملائكة لا يعرفون ما يكون لهم إذا رأوهم من الشر ، وانتفاء البشارة ، وحصول الخسار والمكروه . واحتمل ( بشرى ) أن يكون مبنيا مع ( لا ) ، واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم ، فإن كان مبنيا مع ( لا ) احتمل أن يكون الخبر ( يومئذ ) و ( للمجرمين ) خبر بعد خبر أو نعت لبشرى ، أو متعلق بما تعلق به الخبر ، وأن يكون ( يومئذ ) صفة لبشرى ، والخبر ( للمجرمين ) ويجيء خلاف سيبويه ، والأخفش هل الخبر لنفس ( لا ) أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع ( لا ) وما بني معها ؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب ، جاز أن يكون ( يومئذ ) معمولا لبشرى ، وأن يكون صفة ، والخبر من الخبر . وأجاز أن يكون ( يومئذ ) و ( للمجرمين ) خبر ، وجاز أن يكون ( يومئذ ) خبرا و ( للمجرمين ) صفة ، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيا لنفس لا بإجماع .

وقال الزمخشري : و ( يومئذ ) للتكرير وتبعه أبو البقاء ، ولا يجوز أن يكون تكريرا ، سواء أريد به التوكيد اللفظي أم أريد به البدل ; لأن ( يوم ) منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يعدمون البشرى ، وما بعد ( لا ) العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها ، وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبل إلا ، والظاهر عموم المجرمين فيندرج هؤلاء القائلون فيهم . قيل : ويجوز أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير ، والظاهر أن الضمير في ( ويقولون ) عائد على القائلين ; لأن المحدث عنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ، ، ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم ; لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون ، فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ونزول الشدة ، وقال معناه مجاهد ، قال : ( حجرا ) عواذا يستعيذون من الملائكة . وقال مجاهد وابن جريج : كانت العرب إذا كرهت شيئا قالوا : حجرا . وقال أبو عبيدة : هاتان اللفظتان عوذة للعرب يقولهما من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة ، انتهى . ومنه قول المتلمس :


حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها     حجر حرام ألا تلك الدهاليس

أي : هذا الذي حننت إليه هو ممنوع ، وذكر سيبويه ( حجرا ) في المصادر المنصوبة غير المتصرفة . وقال بعض الرجاز :

قالت وفيها حيرة وذعر عوذ يرى منكم وحجر

وأنه واجب إضمار ناصبها . قال سيبويه : ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا ؟ فيقول : حجرا ، وهي من حجره إذا منعه ; لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه لا يلحقه . وقرأ أبو رجاء ، والحسن [ ص: 493 ] والضحاك ( حجرا ) بضم الحاء . وقيل : الضمير في ( ويقولون ) عائد على الملائكة ، أي : تقول الملائكة للمجرمين : ( حجرا محجورا ) عليكم البشرى ، و ( محجورا ) صفة تؤكد معنى ( حجرا ) ، كما قالوا : موت مائت ، وذيل ذائل ، والقدوم الحقيقي مستحيل في حق الله تعالى ، فهو عبارة عن حكمه بذلك وإنفاذه . قيل : أو على حذف مضاف ، أي قدمت ملائكتنا ، وأسند ذلك إليه لأنه عن أمره ، وحسنت لفظة ( قدمنا ) ; لأن القادم على شيء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له ومذهب ، فمثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم ، من صلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، وقرى ضيف ، ومن على أسير . وغير ذلك من مكارمهم ، بحال قوم خالفوا سلطانهم فقصد إلى ما تحت أيديهم فمزقها بحيث لم يترك لها أثرا ، وفي أمثالهم : أقل من الهباء ، و ( هباء منثورا ) صفة للهباء ، شبهه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به ، ثم وصفه بمنثورا ; لأن الهباء تراه منتظما مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب . وقال الزمخشري : أو جعله - يعني ( منثورا ) - مفعولا ثالثا لجعلناه ، أي : ( فجعلناه ) جامعا لحقارة الهباء والتناثر . كقوله : ( كونوا قردة خاسئين ) ، أي : جامعين للمسخ والخسء ، انتهى . وخالف ابن درستويه فخالف النحويين في منعه أن يكون لكان خبران وأزيد . وقياس قوله في جعل أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث . وقال ابن عباس : الهباء المنثور ما تسفي به الرياح وتبثه . وعنه أيضا : الهباء الماء المهراق ، والمستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات . والمقيل المكان الذي يأوون إليه في الاسترواح إلى الأزواج والتمتع ، ولا نوم في الجنة فسمي مكان استرواحهم إلى الحور ( مقيلا ) ، على طريق التشبيه ; إذ المكان المتخير للقيلولة يكون أطيب المواضع . وفي لفظ ( أحسن ) رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور إلى غير ذلك من التحاسين . و ( خير ) قيل : ليست على بابها من استعمالها دلالة على الأفضلية ، فيلزم من ذلك خير في مستقر أهل النار ، ويمكن إبقاؤها على بابها ويكون التفضيل وقع بين المستقرين والمقيلين باعتبار الزمان الواقع ذلك فيه . فالمعنى ( خير مستقرا ) في الآخرة من الكفار المترفين في الدنيا ، ( وأحسن مقيلا ) في الآخرة من أولئك في الدنيا . وقيل : ( خير مستقرا ) منهم لو كان لهم مستقر ، فيكون التقدير وجود مستقر لهم فيه خير . وعن ابن مسعود ، وابن عباس ، والنخعي ، وابن جبير ، وابن جريج ، ومقاتل : إن الحساب يكمل في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار .

التالي السابق


الخدمات العلمية