(
قل : هل أنبئكم ) أي قل
[ ص: 48 ] يا
محمد : هل أخبركم ؟ وهذا استفهام توقيف وتقرير . " وعلى من " متعلق بـ " تنزل " ، والجملة المتضمنة معنى الاستفهام في موضع نصب لأنبئكم ، لأنه معلق ، لأنه بمعنى أعلمكم ، فإن قدرتها متعدية لاثنين ، كانت سادة مسد المفعول الثاني ؛ وإن قدرتها متعدية لثلاثة ، كانت سادة مسد الاثنين . والاستفهام إذا علق عنه العامل ، لا يبقى على حقيقة الاستفهام وهو الاستعلام ، بل يئول معناه إلى الخبر . ألا ترى أن قولك : علمت أزيد في الدار أم عمرو ، كان المعنى : علمت أحدهما في الدار ؟ فليس المعنى أنه صدر منه علم ، ثم استعلم المخاطب عن تعيين من في الدار من زيد وعمرو ، فالمعنى هنا : هل أعلمكم من تنزل الشياطين عليه ؟ لا أنه استعلم المخاطبين عن الشخص الذي تنزل الشياطين عليه .
ولما كان المعنى هذا ، جاء الإخبار بعده بقوله : (
تنزل على كل أفاك أثيم ) كأنه لما قال : هل أخبركم بكذا ؟ قيل له : أخبر ، فقال : (
تنزل على كل أفاك ) وهو الكثير الإفك ، وهو الكذب ، أثيم : كثير الإثم . فأفاك أثيم : صيغتا مبالغة ، والمراد الكهنة . والضمير في ( يلقون ) يحتمل أن يعود إلى الشياطين ، أي ينصتون ويصغون بأسماعهم ، ليسترقوا شيئا مما يتكلم به الملائكة ، حتى ينزلوا بها إلى الكهنة ، أو : (
يلقون السمع ) أي المسموع إلى من يتنزلون عليه . ( وأكثرهم ) أي وأكثر الشياطين الملقين (
كاذبون ) . فعلى معنى الإنصات يكون استئناف إخبار ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة احتمل الاستئناف ، واحتمل أن يكون حالا من الشياطين ، أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما سمعوا . ويحتمل أن يعود الضمير في يلقون على كل أفاك أثيم ، وجمع الضمير ، لأن كل أفاك فيه عموم وتحته أفراد . واحتمل أن يكون المعنى : يلقون سمعهم إلى الشياطين ، لينقلوا عنهم ما يقررونه في أسماعهم ، وأن يكون يلقون السمع ، أي المسموع من الشياطين إلى الناس ؛ وأكثرهم ، أي أكثر الكهنة كاذبون . كما جاء أنهم يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء ، فيخلطون معها مائة كذبة . فإذا صدقت تلك الكلمة ، كانت سبب ضلالة لمن سمعها . وعلى كون الضمير عائدا على " كل أفاك " ، احتمل أن يكون يلقون استئناف إخبار عن الأفاكين ، واحتمل أن يكون صفة لكل أفاك ، ولا تعارض بين قوله : (
كل أفاك ) وبين قوله : (
وأكثرهم كاذبون ) لأن الأفاك هو الذي يكثر الكذب ، ولا يدل ذلك على أنه لا ينطق إلا بالإفك ، فالمعنى : أن الأفاكين من صدق منهم فيما يحكي عن الجني ، فأكثرهم مغتر .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ( فإن قلت ) : (
وإنه لتنزيل رب العالمين وما تنزلت به الشياطين هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ) لم فرق بينهن وبين أخوان ؟ ( قلت ) : أريد التفريق بينهن بآيات ليست في معناهن ، ليرجع إلى المجيء بهن ، ويطريه ذكر ما فيهن كرة بعد كرة ، فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي أسندت كراهة الله لهم ، ومثاله : أن يحدث الرجل بحديث ، وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية ، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه . انتهى . ولما ذكر الكهنة بإفكهم الكثير وحالهم المقتضية نفي كلام القرآن ، إذ كان بعض الكفار قال في القرآن : إنه شعر ، كما قالوا في الرسول : إنه كاهن ، وإن ما أتى به هو من باب الكهانة ، كما قال - تعالى - : (
ولا بقول كاهن ) وقال : (
وما هو بقول شاعر ) .
فقال : (
والشعراء يتبعهم الغاوون ) . قيل : هي في
nindex.php?page=showalam&ids=12467أمية بن أبي الصلت ،
وأبي عزة ،
ومسافع الجمحي ،
وهبيرة بن أبي وهب ،
nindex.php?page=showalam&ids=9809وأبي سفيان بن الحارث ،
وابن الزبعرى . وقد أسلم
ابن الزبعرى وأبو سفيان . والشعراء عام يدخل فيه كل شاعر ، والمذموم من يهجو ويمدح شهوة محرمة ، ويقذف المحصنات ، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعا . وقرأ
عيسى : " والشعراء " : نصبا على الاشتغال ؛ والجمهور : رفعا على الابتداء والخبر . وقرأ
السلمي ،
والحسن بخلاف عنه ، ونافع يتبعهم مخففا ؛ وباقي السبعة مشددا ؛ وسكن العين :
الحسن ،
وعبد الوارث ، عن
أبي عمرو . وروى
هارون : نصبها
[ ص: 49 ] عن بعضهم ، وهو مشكل . ( والغاوون ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : الرواة ، وقال أيضا : المستحسنون لأشعارهم ، المصاحبون لهم . وقال
عكرمة : الرعاع الذين يتبعون الشاعر . وقال
مجاهد ،
وقتادة : الشياطين . وقال
عطية : السفهاء المشركون يتبعون شعراءهم .
(
ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول ، واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ، ومجاوزة حد القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على
عنترة ، وأشحهم على
حاتم ، ويبهتوا البريء ، ويفسقوا التقي . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هو تقبيحهم الحسن ، وتحسينهم القبيح . (
وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) وذلك لغلوهم في أفانين الكلام ، ولهجهم بالفصاحة والمعاني اللطيفة ، قد ينسبون لأنفسهم ما لا يقع منهم . وقد درأ الحد في الخمر
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن
النعمان بن عدي ، في شعر قاله لزوجته حين احتج عليه بهذه الآية ، وكان قد ولاه بيسان ، فعزله وأراد أن يحده
nindex.php?page=showalam&ids=14899والفرزدق ،
nindex.php?page=showalam&ids=16044لسليمان بن عبد الملك :
فبتن كأنهن مصرعات وبت أفض أغلاق الختام
فقال له
سليمان : لقد وجب عليك الحد ، فقال : لقد درأ الله عني الحد بقوله : (
وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) . أخبر - تعالى - عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة ، إذ أمرهم ، كما ذكر ، من اتباع الغواة لهم ، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمه ، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم ، وذلك بخلاف حال النبوة ، فإنها طريقة واحدة ، لا يتبعها إلا الراشدون . ودعوة الأنبياء واحدة ، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ، والترغيب في الآخرة والصدق . هذا مع أن ما جاءوا به لا يمكن أن يجيء به غيرهم من ظهور المعجز . ولما كان ما سبق ذما للشعراء ، واستثنى منهم من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والإكثار من ذكر الله ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ؛ وإذا نظموا شعرا كان في توحيد الله والثناء عليه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ، والموعظة والزهد والآداب الحسنة وتسهيل علم ، وكل ما يسوغ القول فيه شرعا ، فلا يتلطخون في قوله بذنب ولا منقصة . والشعر باب من الكلام ، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح .
وقال رجل علوي
nindex.php?page=showalam&ids=16711لعمرو بن عبيد : إن صدري ليجيش بالشعر ، فقال : ما يمنعك منه فيما لا بأس به . وقيل : المراد بالمستثنين :
حسان ،
nindex.php?page=showalam&ids=82وعبد الله بن رواحة ،
nindex.php?page=showalam&ids=331وكعب بن مالك ،
وكعب بن زهير ، ومن كان ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال عليه السلام -
nindex.php?page=showalam&ids=331لكعب بن مالك :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374759 " اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل " . وقال
لحسان :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374760 " قل وروح القدس معك " ، وهذا معنى قوله : (
وانتصروا ) أي : بالقول فيمن ظلمهم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16572عطاء بن يسار وغيره : لما ذم الشعراء بقوله : (
والشعراء ) الآية ، شق ذلك على
حسان nindex.php?page=showalam&ids=82وابن رواحة nindex.php?page=showalam&ids=331وكعب بن مالك ، وذكروا ذلك للرسول - عليه الصلاة والسلام - فنزلت آية الاستثناء بالمدينة ، وخص
ابن زيد قوله : (
وذكروا الله كثيرا ) فقال : أي في شعرهم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : صار خلقا لهم وعادة ، كما قال
لبيد - حين طلب منه شعره - : إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيرا منه . ولما ذكر : (
وانتصروا من بعد ما ظلموا ) توعد الظالمين هذا التوعد العظيم الهائل الصادع للأكباد وأبهم في قوله : (
أي منقلب ينقلبون ) .
ولما عهد
أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - تلا عليه :
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ، وكان السلف الصالح يتواعظون بها . والمفهوم من الشريعة أن الذين ظلموا هم الكفار . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وتفسير الظلم بالكفر تعليل ، وكان ذكر قبل : أن الذين ظلموا مطلق ، وهذا منه على طريق الاعتزال . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
وابن أرقم ، عن
الحسن : أي منفلت ينفلتون ، بفاء وتاءين ، معناه : إن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله ، وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات ، وهو النجاة . " وسيعلم هنا معلقة " ، " وأي منقلب " : استفهام ، والناصب له ينقلبون ، وهو مصدر .
[ ص: 50 ] والجملة في موضع المفعول لـ " سيعلم " . وقال
أبو البقاء : أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف ، والعامل ينقلبون انقلابا ، أي منقلب ، ولا يعمل فيه " يعلم " ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . انتهى . وهذا تخليط ؛ لأن " أي " ، إذا وصف بها ، لم تكن استفهاما ، بل " أي " الموصوف بها قسم " لأي " المستفهم بها ، لا قسم . فأي تكون شرطية واستفهامية وموصولة ، ووصفا على مذهب
الأخفش موصوفة بنكرة نحو : مررت بأي معجب لك ، وتكون مناداة وصلة لنداء ما فيه الألف واللام نحو : يا أيها الرجل .
والأخفش يزعم أن التي في النداء موصولة . ومذهب الجمهور أنها قسم برأسه ، والصفة تقع حالا من المعرفة ، فهذه أقسام أي ؛ فإذا قلت : قد علمت أي ضرب تضرب ، فهي استفهامية ، لا صفة لمصدر محذوف .