( وقد انجر ) في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب ، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب ، وكان عالما بافتنان الكلام ، قادرا على إنشاء النثار البديع والنظام . وأما من لا اطلاع له على كلام العرب ، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب ، فسمعه عن هذا الفن مسدود ، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود . قالوا : وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع : ( النوع الأول ) : حسن الافتتاح وبراعة المطلع ، فإن كان أولها
بسم الله الرحمن الرحيم ، على قول من عدها منها ، فناهيك بذلك حسنا إذ كان مطلعها مفتتحا باسم الله ، وإن كان أولها
الحمد لله ، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله ، ووصفه بما له من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام ، وقدم بين يدي النثر والنظام ، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور ، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح ، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع . ( النوع الثاني ) : المبالغة في الثناء ، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر . ( النوع الثالث ) : تلوين الخطاب على قول بعضهم ، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الأمر ، كقوله : (
لا ريب فيه ) ومعناه النهي . ( النوع الرابع ) : الاختصاص باللام التي في لله ، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به ، إذ هو مستحق لها ، وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم ، وتفرده فيه بالملك والملك ، قال تعالى : (
لمن الملك اليوم ) ، ولأنه لا مجازي في ذلك اليوم على الأعمال سواه . ( النوع الخامس ) : الحذف ، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر ، وتقدم ، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه ؟ قال بعضهم : ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد ، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر ، قال : ومنه حذف صراط من قوله
غير المغضوب ، التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين ، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه ، اذكروا أو اقرءوا ، فتقديره اقرءوا سورة الحمد ، وأما من قيد الرحمن والرحيم ونعبد ونستعين وأنعمت والمغضوب عليهم والضالين ، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة . ( النوع السادس ) : التقديم والتأخير ، وهو في قوله نعبد ، ونستعين ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، وتقدم الكلام على ذلك . ( النوع السابع ) : التفسير ، ويسمى التصريح بعد الإبهام ، وذلك في بدل (
صراط الذين ) من (
الصراط المستقيم ) . ( النوع الثامن ) : الالتفات ، وهو في
إياك نعبد وإياك نستعين ،
اهدنا . ( النوع التاسع ) : طلب الشيء ، وليس المراد حصوله بل دوامه ، وذلك في
اهدنا . ( النوع العاشر ) : سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم . ( النوع الحادي عشر ) : التسجيع ، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي ، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي ، قوله تعالى : (
الرحمن الرحيم ) ، (
اهدنا الصراط المستقيم ) ، وقوله تعالى : (
نستعين ) ، (
ولا الضالين ) . انقضى كلامنا على تفسير الفاتحة . وكره
الحسن أن يقال لها أم الكتاب ، وكره
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن ، وجوزه الجمهور . والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه . عد الجمهور المكيون والكوفيون (
بسم الله الرحمن الرحيم ) آية ، ولم يعدوا (
أنعمت عليهم ) وسائر العادين ومنهم
ابن كثير من قراء
مكة والكوفة لم يعدوها آية ، وعدوا (
صراط الذين أنعمت عليهم ) آية ، وشذ
nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد فجعل آية (
إياك نعبد ) فهي على عده ثمان آيات ، وشذ
nindex.php?page=showalam&ids=14129حسين الجعفي فزعم أنها ست آيات . قال
ابن عطية : وقول الله - تعالى - : (
ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) هو الفصل في ذلك . ولم
[ ص: 32 ] يختلفوا في أن
البسملة في أول كل سورة ليست آية ، وشذ
nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك فقال : إنها آية في كل سورة . ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية ؟ وذكر المفسرون عدد حروف الفاتحة وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول ، وذكروا أحاديث في فضل (
بسم الله الرحمن الرحيم ) ، الله أعلم بها . وذكروا للتسمية أيضا ما لا يعد سببا ، وذكروا أن
الفاتحة تسمى الحمد ، وفاتحة الكتاب ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني ، والواقية ، والكافية ، والشفاء ، والشافية ، والرقية ، والكنز ، والأساس ، والنور ، وسورة الصلاة ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة المناجاة ، وسورة التفويض . وذكروا أن ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة ، والكلام على هذا كله من باب التذييلات ، لا أن ذلك من علم التفسير ، إلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك يضطر إليه علم التفسير . وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها والاختلاف في مدلولها وحكمها في الصلاة وليست من القرآن ، فلذلك أضربنا على الكلام عليها صفحا كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب ، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عن علم التفسير حذفناها من كتابنا هذا إذ كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة ، والله تعالى أعلم .