صفحة جزء
( سورة الملك مكية وهي ثلاثون آية )

( بسم الله الرحمن الرحيم )

تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور .

[ ص: 297 ] هذه السورة مكية . ومناسبتها لما قبلها ، أنه لما ضرب للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة ، وإن كانتا تحت نبيين ، ومثلا للمؤمنين بـ آسية و مريم ، وهما محتوم لهما بالجنة ، وإن كان قوماهما كافرين . كان ذلك تصرفا في ملكه على ما سبق قضاؤه ، فقال : ( تبارك ) أي : تعالى وتعاظم الذي بيده الملك وهو كناية عن الإحاطة والقهر ، وكثيرا ما جاء نسبة اليد إليه - تعالى - كقوله : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء بيدك الخير وذلك في حقه - تعالى - استعارة لتحقيق الملك ، إذ كانت في عرف الآدميين آلة للتملك ، والملك هنا هو على الإطلاق لا يبيد ولا يختل . وعن ابن عباس : ملك الملوك لقوله - تعالى - : قل اللهم مالك الملك وناسب الملك ذكر وصف القدرة والحياة ما يصح بوجوده الإحساس . ومعنى خلق الموت إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون ، وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة ، استعارة من فعل المختبر . وفي الحديث أنه فسر أيكم أحسن عملا أي : أحسن عقلا وأشدكم خوفا وأحسنكم في أمره ونهيه نظرا ، وإن كان أقلكم تطوعا . وعن ابن عباس والحسن والثوري : أزهدكم في الدنيا . وقيل : كنى بالموت عن الدنيا ، إذ هو واقع فيها ، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها ، فكأنه قال : هو الذي خلق الدنيا والآخرة ، وصفهما بالمصدرين ، وقدم الموت لأنه أهيب في النفوس . و ( ليبلوكم ) متعلق بـ ( خلق ) و أيكم أحسن عملا مبتدأ وخبر ، فقدر الحوفي قبلها فعلا تكون الجملة في موضع معموله ، وهو معلق عنها ، تقديره : فينظر ، وقدر ابن عطية فينظر أو فيعلم .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) من أين تعلق قوله : أيكم أحسن عملا بفعل البلوى ؟ ( قلت ) : من حيث إنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا ، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملا أم هو ؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملا . ( فإن قلت ) أيسمى هذا تعليقا ؟ ( قلت ) : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعا ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق . ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام وغير مصدر به ؟ ولو كان تعليقا لافترقت الحالتان ، كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق ، وعلمت زيدا منطلقا . انتهى . وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقا ، فيقولون في الفعل إذا عدي إلى اثنين [ ص: 298 ] ونصب الأول وجاءت بعده جملة استفهامية ، أو بلام الابتداء ، أو بحرف نفي ، كانت الجملة معلقا عنها الفعل ، وكانت في موضع نصب ، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل . وقد تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى : لنبلوهم أيهم أحسن عملا .

وانتصب ( طباقا ) على الوصف لـ " سبع " ، فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقا لقولهم : النعل خصفها طبقا على طبق ، وصف به على سبيل المبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي ذا طباق ، وإما جمع طبق كجمل وجمال ، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب ، والمعنى : بعضها فوق بعض . وما ذكر من مواد هذه السماوات . فالأولى من موج مكفوف ، والثانية من درة بيضاء ، والثالثة من حديد ، والرابعة من نحاس ، والخامسة من فضة ، والسادسة من ذهب ، والسابعة من زمردة بيضاء - يحتاج إلى نقل صحيح ، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح ، وكان أعمى لا يبصر موضع قدمه ، يخبر أنه يشاهد السماوات على بعض أوصاف مما ذكرنا .

من تفاوت قال ابن عباس : من تفرق . وقال السدي : من عيب . وقال عطاء بن يسار : من عدم استواء . وقال ثعلب : أصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئا من الخلل . وقيل : من اضطراب . وقيل : من اعوجاج . وقيل : من تناقض . وقيل : من اختلاف . وقيل : من عدم التناسب . والتفاوت : تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص . قال بعض الأدباء :


تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى بهن اختلافا بل أتين على قدر



وقرأ الجمهور : من تفاوت بألف مصدر تفاوت . وعبد الله وعلقمة والأسود ، وابن جبير وطلحة والأعمش بشد الواو ، مصدر تفوت . وحكى أبو زيد بن العربي : ( تفاوتا ) بضم الواو وفتحها وكسرها ، والفتح والكسر شاذان . والظاهر عموم خلق الرحمن من الأفلاك وغيرها ، فإنه لا تفوت فيه ولا فطور ، بل كل جار على الإتقان . وقيل : المراد في خلق الرحمن السماوات فقط ، والظاهر أن قوله تعالى : ما ترى استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت ، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله : ( طباقا ) أصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله : خلق الرحمن تعظيما لخلقهن وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المناسب . انتهى . والخطاب في ( ترى ) لكل مخاطب ، أو للرسول ، صلى الله عليه وسلم . ولما أخبر - تعالى - أنه لا تفاوت في خلقه ، أمر بترديد البصر في الخلق المناسب ، فقال : ( فارجع ) ففي الفاء معنى التسبب ، والمعنى : أن العيان يطابق الخبر .

و ( الفطور ) قال مجاهد : الشقوق . فطر ناب البعير : شق اللحم وظهر ، قال الشاعر :


بنى لكم بلا عمد سماء     وسواها فما فيها فطور



وقال أبو عبيدة : صدوع ، وأنشد قول عبيد بن مسعود :


شققت القلب ثم رددت فيه     هواك فليط فالتأم الفطور



وقال السدي : خروق . وقال قتادة : خلل ، ومنه التفطير والانفطار . وقال ابن عباس : وهن . وهذه تفاسير متقاربة .

والجملة من قوله : هل ترى من فطور في موضع نصب بفعل معلق محذوف ، أي فانظر هل ترى ، أو ضمن معنى فارجع البصر معنى فانظر ببصرك هل ترى ؟ فيكون معلقا . ثم ارجع البصر أي : ردده كرتين هي تثنية لا شفع الواحد ، بل يراد بها التكرار ، كأنه قال : كرة بعد كرة ، أي كرات كثيرة ، كقوله : لبيك ، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض ، وأريد بالتثنية التكثير ، كما أريد بما هو أصل لها التكثير ، وهو مفرد عطف على مفرد ، نحو قوله :


لو عد قبر وقبر كان أكرمهم     بيتا وأبعدهم عن منزل الزام





[ ص: 299 ] يريد : لو عدت قبور كثيرة . وقال ابن عطية وغيره : ( كرتين ) معناه مرتين ، ونصبها على المصدر . وقيل : أمر برجع البصر إلى السماء مرتين ، غلط في الأولى ، فيستدرك بالثانية . وقيل : الأولى ليرى حسنها واستواءها ، والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها . وقرأ الجمهور : ( ينقلب ) جزما على جواب الأمر . و الخوارزمي عن الكسائي : يرفع الباء ، أي : فينقلب على حذف الفاء ، أو على أنه موضع حال مقدرة ، أي : إن رجعت البصر وكررت النظر ; لتطلب فطور شقوق أو خللا أو عيبا ، رجع إليك مبعدا عما طلبته لانتفاء ذلك عنها ، وهو كال من كثرة النظر ، وكلاله يدل على أن المراد بالكرتين ليس شفع الواحد ; لأنه لا يكل البصر بالنظر مرتين اثنتين . والحسير : الكال ، قال الشاعر :


لهن الوجى لم كن عونا على النوى     ولا زال منها ظالع وحسير



يقال : حسر بعيره يحسر حسورا أي : كل وانقطع فهو حسير ومحسور ، قال الشاعر يصف ناقة :


فشطرها نظر العينين محسور

أي : ونحرها ، وقد جمع حسير بمعنى أعيا وكل ، قال الشاعر :


بها جيف الحسرى فأما عظامها



البيت .

السماء الدنيا هي التي نشاهدها ، والدنو أمر نسبي وإلا فليست قريبة . ( بمصابيح ) أي : بنجوم مضيئة كالمصابيح ، ومصابيح مطلق الأعلام ، فلا يدل على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح . وجعلناها رجوما للشياطين أي : جعلنا منها ; لأن السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم هذا إن عاد الضمير في قوله : ( وجعلناها ) على السماء . والظاهر عوده على مصابيح . ونسب الرجم إليها ; لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل من نارها ، والكواكب قار في ملكه على حاله . فالشهاب كقبس يؤخذ من النار ، والنار باقية لا تنقص . والظاهر أن الشياطين هم مسترقو السمع ، وأن الرجم هو حقيقة يرمون بالشهب ، كما تقدم في سورة الحجر وسورة والصافات . وقيل : معنى ( رجوما ) : ( ظنونا ) لشياطين الإنس ، وهم المنجمون ينسبون إلى النجوم أشياء على جهة الظن من جهالهم ، والتمويه والاختلاق من أزكيائهم ، ولهم في ذلك تصانيف تشتمل على خرافات يموهون بها على الملوك وضعفاء العقول ، ويعملون موالد يحكمون فيها بالأشياء لا يصح منها شيء . وقد وقفنا على أشياء من كذبهم في تلك الموالد ، وما يحكونه عن أبي معشر وغيره من شيوخ السوء كذب يغرون به الناس الجهال . وقال قتادة : خلق الله - تعالى - النجوم زينة للسماء ورجوما للشياطين ، وليهتدى بها في البر والبحر . فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة . والضمير في " لهم " عائد على الشياطين .

وقرأ الجمهور : عذاب جهنم برفع الباء . والضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني ، والحسن في رواية هارون عنه : بالنصب عطفا على عذاب السعير أي : وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم . إذا ألقوا فيها أي : طرحوا ، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به ، ومثله " حصب جهنم " سمعوا لها أي : لجهنم ( شهيقا ) أي : صوتا منكرا كصوت الحمار ، تصوت مثل ذلك لشدة توقدها وغليانها . ويحتمل أن يكون على حذف مضاف ، أي : سمعوا لأهلها ، كما قال تعالى : لهم فيها زفير وشهيق . وهي تفور تغلي بهم غلي المرجل . تكاد تميز أي : ينفصل بعضها من بعض لشدة اضطرابها ، ويقال : فلان يتميز من الغيظ إذا وصفوه بالإفراط في الغضب . وقرأ الجمهور : ( تميز ) بتاء واحدة خفيفة ، و البزي يشددها ، و طلحة : بتاءين ، وأبو عمرو : بإدغام الدال في التاء ، والضحاك : تمايز على وزن تفاعل ، وأصله تتمايز بتاءين . و زيد بن علي وابن أبي عبلة : تميز من ماز من الغيظ على الكفرة ، جعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم ، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر في كلب :


يشتد في جريه يكاد     أن يخرج من إهابه



[ ص: 300 ] وقولهم : غضب فلان ، فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا أفرط في الغضب . ويجوز أن يراد من غيظ الزبانية . كلما ألقي فيها فوج أي : فريق من الكفار سألهم خزنتها سؤال توبيخ وتقريع ، وهو مما يزيدهم عذابا إلى عذابهم ، وخزنتها : مالك وأعوانه ألم يأتكم نذير ينذركم بهذا اليوم قالوا بلى اعتراف بمجيء النذر إليهم . قال الزمخشري : اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأنه - عز وعلا - أزاح عللهم ببعثه الرسل وإنذارهم فيما وقعوا فيه ، وأنهم لم يؤتوا من قدرة كما تزعم المجبرة ، وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم ، خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده . انتهى ، وهو على طريق المعتزلة . والظاهر أن قوله : إن أنتم إلا في ضلال كبير من قول الكفار للرسل الذين جاءوا نذرا إليهم ، أنكروا أولا أن الله نزل شيئا ، واستجهلوا ثانيا من أخبر بأنه - تعالى - أرسل إليهم الرسل ، وأن قائل ذلك في حيرة عظيمة . ويجوز أن يكون من قول الخزنة للكفار إخبارا لهم وتقريعا بما كانوا عليه في الدنيا . أرادوا بالضلال الهلاك الذي هم فيه ، أو سموا عقاب الضلال ضلالا لما كان ناشئا عن الضلال . وقال الزمخشري : أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة ، أي : قالوا لنا هذا فلم نقبله . انتهى . فإن كان الخطاب في إن أنتم للرسل ، فقد يراد به الجنس ، ولذلك جاء الخطاب بالجمع . ( وقالوا ) أي : للخزنة حين حاوروهم لو كنا نسمع سماع طالب للحق أو نعقل عقل متأمل له ، لم نستوجب الخلود في النار . فاعترفوا بذنبهم أي : بتكذيب الرسل ( فسحقا ) أي : فبعدا لهم ، وهو دعاء عليهم ، والسحق : البعد ، وانتصابه على المصدر أي : سحقهم الله سحقا ، قال الشاعر :


يجول بأطراف البلاد مغربا     وتسحقه ريح الصبا كل مسحق



والفعل منه ثلاثي . وقال الزجاج : أي : أسحقهم الله سحقا ، أي : باعدهم بعدا . وقال أبو علي الفارسي : القياس إسحاقا ، فجاء المصدر على الحذف ، كما قيل :

وإن أهلك فذلك كان قدري

أي تقديري . انتهى ، ولا يحتاج إلى ادعاء الحذف في المصدر ; لأن فعله قد جاء ثلاثيا ، كما أنشد :


وتسحقه ريح الصبا كل مسحق



وقرأ الجمهور : بسكون الحاء . و علي وأبو جعفر والكسائي ، بخلاف عن أبي الحرث عنه : بضمها . قال ابن عطية : ( فسحقا ) نصبا على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه ، وهو من قبل الله - تعالى - من حيث هذا القول فيهم مستقر أولا ، ووجوده لم يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى به ، كما تقول : سحقا لزيد وبعدا ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، وإن وقع وثبت ، فالوجه فيه الرفع ، كما قال تعالى : ويل للمطففين و سلام عليكم وغير هذا من الأمثلة . انتهى . يخشون ربهم بالغيب أي : الذي أخبروا به من أمر المعاد وأحواله ، أو غائبين عن أعين الناس ، أي في خلواتهم ، كقوله : ورجل ذكر الله خاليا ، ففاضت عيناه . وأسروا قولكم خطاب لجميع الخلق . قال ابن عباس : وسببه أن بعض المشركين قال لبعض : أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد . ألا يعلم من خلق الهمزة للاستفهام و " لا " للنفي ، والظاهر أن " من " مفعول ، والمعنى أينتفي علمه بمن خلق ، وهو الذي لطف علمه ودق وأحاط بخفيات الأمور وجلياتها ؟ وأجاز بعض النحاة أن يكون " من " فاعلا ، والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سركم وجهركم ؟ وهو استفهام معناه الإنكار ، أي : كيف لا يعلم ما تكلم به من خلق الأشياء ، وأوجدها من العدم الصرف ، وحاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ؟

هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا منة منه - تعالى - بذلك ، والذلول فعول للمبالغة ، من ذلك تقول : دابة ذلول بينة الذل ، ورجل ذليل : بين الذل . وقال ابن عطية : والذلول فعول بمعنى مفعول ، أي : مذلولة ، فهي كركوب وحلوب . انتهى . وليس بمعنى مفعول ; لأن فعله قاصر ، وإنما تعدى [ ص: 301 ] بالهمزة كقوله : وتذل من تشاء وإما بالتضعيف لقوله : وذللناها لهم وقوله أي : مذلولة يظهر أنه خطأ . فامشوا في مناكبها أمر بالتصرف فيها والاكتساب . ومناكبها ، قال ابن عباس وقتادة وبشر بن كعب : أطرافها ، وهي الجبال . وقال الفراء والكلبي ومنذر بن سعيد : جوانبها ، ومنكبا الرجل : جانباه . وقال الحسن والسدي : طرفها وفجاجها . قال الزمخشري : والمشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية ; لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير ، وأنبأه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم ينزل . انتهى . وقال الزجاج : سهل لكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل . وإليه النشور أي : البعث ، فيسألكم عن شكر هذه النعمة عليكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية