(
لا تحرك به لسانك ) : الظاهر والمنصوص الصحيح في سبب النزول أنه خطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى . وقال
القفال : هو خطاب للإنسان المذكور في قوله : (
ينبأ الإنسان ) وذلك حال تنبئه بقبائح أفعاله ، يعرض عليه كتابه فيقال له : (
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) . فإذا أخذ في القراءة تلجلج من شدة الخوف وسرعة القراءة ، فقيل له : (
لا تحرك به لسانك لتعجل به ) فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك . (
فإذا قرأناه ) عليك (
فاتبع قرآنه ) بأنك فعلت تلك الأفعال . (
ثم إن علينا بيانه ) أي : بيان أمره وشرح عقوبته . وحاصل قول هذا القول أنه تعالى يقرر الكافر على جميع أفعاله على التفصيل ، وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة .
وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس :
أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعالج من التنزيل شدة ، وكان ربما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه ، فنزلت . وقال
الضحاك : السبب أنه
كان - عليه الصلاة والسلام - كان يخاف أن ينسى القرآن ، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق ، فنزلت . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي : كان لحرصه - عليه الصلاة والسلام - على أداء الرسالة والاجتهاد في عبادة الله ، ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي ، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه ، وجاءت هذه الآية في هذا المعنى . والضمير في " به " للقرآن دل عليه مساق الآية . (
إن علينا جمعه ) أي : في صدرك (
وقرآنه ) أي : قراءتك إياه ، والقرآن مصدر كالقراءة ، قال الشاعر :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وقيل : (
وقرآنه ) وتأليفه في صدرك ، فهو مصدر من قرأت أي : جمعت ، ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد : ما قرأت سلاقط ، وقال الشاعر :
ذراعي بكرة أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا
(
فإذا قرأناه ) أي : الملك المبلغ عنا (
فاتبع ) أي : بذهنك وفكرك ، أي : فاستمع قراءته ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . وقال أيضا هو و
قتادة والضحاك : فاتبع في الأوامر والنواهي . وفي كتاب
ابن عطية ، وقرأ
أبو العالية : فإذا قرته فاتبع قرته ، بفتح القاف والراء والتاء ، من غير همز ولا ألف في الثلاثة ، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة ، ووجه اللفظ الأول أنه مصدر ، أي : إن علينا جمعه وقراءته ، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها ، فبقي قرته كما ترى . وأما الثاني فإنه فعل ماض أصله فإذا قرأته ، أي : أردت قراءته .
[ ص: 388 ] فسكن الهمزة فصار قرأته ، ثم حذف الألف على جهة الشذوذ ، كما حذفت في قول العرب : ولو تر ما الصبيان ، يريدون : ولو ترى ما الصبيان ، وما زائدة . وأما اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول ، أي : فإذا قرأته ، أي : أردت قراءته ، فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل . (
ثم إن علينا بيانه ) قال
قتادة وجماعة : أن نبينه لك ونحفظكه . وقيل : أن تبينه أنت . وقال
قتادة أيضا : أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره .
وفي التحرير والتحبير قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : (
إن علينا جمعه ) أي : حفظه في حياتك ، وقراءته : تأليفه على لسانك . وقال
الضحاك : نثبته في قلبك بعد جمعه لك . وقيل : جمعه بإعادة
جبريل عليك مرة أخرى إلى أن يثبت في صدرك . (
فإذا قرأناه ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أنزلناه إليك ، فاستمع قراءته ، وعنه أيضا : فإذا يتلى عليك فاتبع ما فيه . وقال
قتادة : فاتبع حلاله واجتنب حرامه . وقد نمق
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري بحسن إيراده تفسير هذه الآية ، فقال :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقن الوحي ، نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفا من أن يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه وسمعه حتى يقضى إليه وحيه ، ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه . والمعنى : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام
جبريل يقرأ . (
لتعجل به ) : لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك ، ثم علل النهي عن العجلة بقوله : (
إن علينا جمعه ) في صدرك وإثبات قراءته في لسانك . (
فإذا قرأناه ) : جعل قراءة
جبريل قراءته ، والقرآن القراءة ، فاتبع قراءته : فكن مقفيا له فيه ولا تراسله ، وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه . (
ثم إن علينا بيانه ) : إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا ، كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه ، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . انتهى .
وذكر
أبو عبد الله الرازي في تفسيره : أن جماعة من قدماء الروافض زعموا أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه ، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، ولو كان التركيب من الله تعالى ما كان الأمر كذلك . ثم ذكر
الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه ، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضا عن آيات الله تعالى ومعجزاته ، وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها ، وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله ومن يرغب عنها . وبضدها تتميز الأشياء . ولما كان - عليه الصلاة والسلام - لمثابرته على ذلك ، كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه . كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة . لما فرغ من خطابه - عليه الصلاة والسلام - رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث ، وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة ، إذ هو منكر لذلك . وقرأ الجمهور : (
بل تحبون العاجلة وتذرون ) بتاء الخطاب ، لكفار
قريش المنكرين البعث ، و ( كلا ) : رد عليهم وعلى أقوالهم ، أي : ليس كما زعمتم ، وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ( كلا ) ردع ، وذكر في كتابه ما يوقف عليه فيه . وقرأ
مجاهد والحسن وقتادة ، و
الجحدري وابن كثير وأبو عمرو : بياء الغيبة فيهما . ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة ، تخلص إلى شيء من أحوال الآخرة ، فقال : (
وجوه يومئذ ناضرة ) وعبر بالوجه عن الجملة . وقرأ الجمهور : (
ناضرة ) بألف ، و
nindex.php?page=showalam&ids=15948زيد بن علي : ( نضرة ) بغير ألف . وقرأ
ابن عطية : ( وجوه ) رفع بالابتداء ، وابتدأ بالنكرة ; لأنها تخصصت بقوله : ( يومئذ ) و (
ناضرة ) خبر ( وجوه ) . وقوله : (
إلى ربها ناظرة ) جملة هي في موضع خبر بعد
[ ص: 389 ] خبر . انتهى . وليس ( يومئذ ) تخصيصا للنكرة ، فيسوغ الابتداء بها ; لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ، إنما يكون ( يومئذ ) معمول لـ (
ناضرة ) . وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، و (
ناضرة ) الخبر ، و (
ناظرة ) صفة . وقيل : (
ناضرة ) نعت لـ ( وجوه ) و (
إلى ربها ناظرة ) الخبر ، وهو قول سائغ . ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في أصول الدين ودلائل الفريقين ، أهل السنة وأهل الاعتزال ، فلا نطيل بذكر ذلك هنا . ولما كان
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري من
المعتزلة ، ومذهبه أن تقديم المفعول يدل على الاختصاص ، قال هنا : ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر في محشر يجمع الله فيه الخلائق ، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال ، فوجب حمله على معنى لا يصح معه الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقع والرجاء ، ومنه قول القائل :
وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعماء
وسمعت سروية مستجدية بـ
مكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول : عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه . انتهى . وقال
ابن عطية : ذهبوا ، يعني
المعتزلة ، إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة ، أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافا محذوفا ، وهذا وجه سائغ في العربية . كما تقول : فلان ناظر إليك في كذا أي : إلى صنعك في كذا . انتهى . والظاهر أن " إلى " في قوله : (
إلى ربها ) حرف جر يتعلق بـ (
ناظرة ) . وقال بعض
المعتزلة : " إلى " هنا واحد الآلاء ، وهي النعم ، وهي مفعول به معمول لـ (
ناظرة ) بمعنى منتظرة . (
ووجوه يومئذ باسرة ) : يجوز أن يكون ( وجوه ) مبتدأ خبره (
باسرة ) وتظن خبر بعد خبر وأن تكون (
باسرة ) صفة وتظن الخبر . والفاقرة قال
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب قاصمة الظهر ، و (
تظن ) بمعنى توقن أو يغلب على اعتقادها وتتوقع (
أن يفعل بها فاقرة ) : فعل هو في شدة داهية تقصم . وقال
أبو عبيدة : " فاقرة " من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار . ( كلا ) : ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ، وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده ، وينتقل منها إلى الآجلة ، والضمير في ( بلغت ) عائد إلى النفس الدال عليها سياق الكلام ، كقول
حاتم :
لعمرك ! ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وتقول العرب : أرسلت ، يريدون جاء المطر ، ولا نكاد نسمعهم يقولون السماء . وذكرهم تعالى بصعوبة الموت ، وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها . وقيل : مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل حاضرا والمريض طلبوا له من يرقي ويطب ويشفي ، وغير ذلك مما يتمناه له أهله ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ، وهو استفهام حقيقة . وقيل : هو استفهام إبعاد وإنكار ، أي : قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه ، كما عند الناس : من ذا الذي يقدر أن يرقي هذا المشرف على الموت ، قاله
عكرمة وابن زيد . واحتمل أن يكون القائل الملائكة ، أي : من يرقى بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أيضا
nindex.php?page=showalam&ids=16043وسليمان التيمي . وقيل : إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها ، ويدل عليه قوله بعد : (
فلا صدق ولا صلى ) الآية . ووقف
حفص على ( من ) وابتدأ (
راق ) وأدغم الجمهور . قال
أبو علي : لا أدري ما وجه قراءته . وكذلك قرأ : (
بل ران ) . انتهى . وكان
حفص قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة ، فسكت سكتا لطيفا ليشعر أنهما كلمتان . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : إن النون تدغم في الراء ، وذلك نحو من راشد . والإدغام بغنة وبغير غنة ، ولم يذكر البيان . ولعل
[ ص: 390 ] ذلك من نقل غيره من الكوفيين ، و
عاصم شيخ
حفص يذكر أنه كان عالما بالنحو . وأما (
بل ران ) فقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه أن اللام البيان فيها ، والإدغام مع الراء حسنان ، فلما أفرط في شأن البيان في (
بل ران ) صار كالوقف القليل . ( وظن ) أي : المريض ( أنه ) أي : ما نزل به (
الفراق ) : فراق الدنيا التي هي محبوبته ، والظن هنا على بابه . وقيل : فراق الروح الجسد .