(
إن في خلق السماوات والأرض ) : روي أنه لما نزل ( وإلهكم ) الآية ، قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فنزل : ( إن في خلق ) . ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية ، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالا بالأثر على المؤثر ، وبالصنعة على الصانع ، وعرفهم طريق النظر ، وفيم ينظرون . فبدأ أولا بذكر العالم العلوي فقال : (
إن في خلق السماوات ) . وخلقها : إيجادها واختراعها ، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم : خلق فلان حسن : أي خلقته وشكله . وقيل : خلق هنا زائدة ، والتقدير : إن في السماوات والأرض ; لأن الخلق إرادة تكوين الشيء . والآيات في المشاهد من السماوات والأرض ، لا في الإرادة ، وهذا ضعيف ; لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان ، ولأن الخلق ليس هو الإرادة ، بل الخلق ناشئ عن الإرادة . قالوا : وجمع السماوات ; لأنها أجناس ، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ، ووحد الأرض ; لأنها كلها من تراب . وبدأ بذكر السماء لشرفها وعظم ما احتوت عليه من الأفلاك والأملاك والعرش والكرسي وغير ذلك ، وآياتها : ارتفاعها من غير عمد تحتها ، ولا علائق من فوقها ، ثم ما فيها من النيرين ، الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة ، شارقة وغاربة ، نيرة وممحوة ، وعظم أجرامها وارتفاعها ، حتى قال أرباب الهيئة : إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرة ، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرات ، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام ، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها ، وإنها سبعة أفلاك ، يجمعها الفلك المحيط . وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373878أطت السماء وحق لها أن تئط ، ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد " . وصح
[ ص: 465 ] أيضا .
أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفا ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة " . وآية الأرض : بسطها ، لا دعامة من تحتها ولا علائق من فوقها ، وأنهارها ومياهها وجبالها ورواسيها وشجرها وسهلها ووعرها ومعادنها ، واختصاص كل موضع منها بما هيئ له ، ومنافع نباتها ومضارها . وذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة ، وأن البحار محيطة بها ، والهواء محيط بالماء ، والنار محيطة بالهواء ، والأفلاك وراء ذلك . وقد ذكر القاضي
أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف ( بالدقائق ) خلافا عن الناس المتقدمين : هل الأرض واقفة أم متحركة ؟ وفي كل قول من هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها ، أو لتحركها . وكذلك تكلموا على جرم السماوات ولونها وعظمها وأبراجها ، وذكر مذاهب للمنجمين والمانوية ، وتخاليط كثيرة . والذي تكلم عليه أهل الهيئة هو شيء استدلوا عليه بعقولهم ، وليس في الشرع شيء من ذلك . والمعتمد عليه أن هذه الأشياء لا يعلم حقيقة خلقها إلا الله تعالى ، ومن أطلعه الله على شيء منها بالوحي (
أحاط بكل شيء علما ) ، (
وأحصى كل شيء عددا ) .
(
واختلاف الليل والنهار ) : اختلافهما بإقبال هذا وإدبار هذا ، أو اختلافهما بالأوصاف في النور والظلمة ، والطول والقصر ، أو تساويهما ، قاله
ابن كيسان . وقدم الليل على النهار لسبقه في الخلق ، قال تعالى : (
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) . وقال قوم : إن النور سابق على الظلمة ، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم . فعلى القول الأول : تكون ليلة اليوم هي التي قبله ، وهو قول الجمهور ; وعلى القول الثاني : ليلة اليوم هي الليلة التي تليه ، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار اختلافهم في مسألة : لو حلف لا يكلم زيدا نهارا .
(
والفلك التي تجري في البحر ) : أول من عمل الفلك
نوح - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - وقال له
جبريل - عليه السلام - : ضعها على جؤجؤ الطائر . فالسفينة طائر مقلوب ، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12815أبو بكر بن العربي . وآيتها تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ، ووقوفها فوقه مع ثقلها وتبليغها المقاصد . ولو رميت في البحر حصاة لغرقت . ووصفها بهذه الصفة من الجريان ; لأنها آيتها العظمى ، وجعل الصفة موصولا ، صلته تجري : فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها . وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد ، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر . والألف واللام فيه للجنس ، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع ، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري . (
بما ينفع الناس ) : يحتمل أن تكون " ما " موصولة ، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد ، فتكون الباء للحال . ويحتمل أن تكون " ما " مصدرية ، أي ينتفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما ، فتكون الباء للسبب . واقتصر على ذكر النفع ، وإن كانت تجري بما يضر ; لأنه ذكرها في معرض الامتنان .
(
وما أنزل الله من السماء من ماء ) : أي من جهة السماء . " من " الأولى لابتداء الغاية تتعلق بأنزل ، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما ، أي والذي أنزله الله من السماء . و " من " الثانية مع ما بعدها بدل من قوله : ( من السماء ) ، بدل اشتمال ، فهو على نية تكرار العامل ، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى ، أو للتبعيض ، وتتعلق بأنزل . ولا يقال : كيف تتعلق بأنزل " من " الأولى والثانية ; لأن معنييهما مختلفان . (
فأحيا به الأرض بعد موتها ) : عطف على صلة ما ، - الذي هو أنزل - بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات ، وبه عائد على الموصول . وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات ، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره . وهما كنايتان غريبتان ; لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة ، وما لم يظهر فهو كامن فيها ، كأنه
[ ص: 466 ] دفين فيها ، ولهي له قبر .
(
وبث فيها من كل دابة ) : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين ، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول ; لأن الضمير في " فيها " عائد على الأرض وتقديره : وبث فيها من كل دابة . لكن حذف هذا الضمير ، إذا كان مجرورا بالحرف ، له شرط ، وهو أن يدخل على الموصول ، أو الموصوف بالموصول ، أو المضاف إلى الموصول حرف جر ، مثل ما دخل على الضمير لفظا ومعنى ، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظا ومعنى ، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع ، وأن لا يكون محصورا ، ولا في معنى المحصور ، وأن يكون متعينا للربط . وهذا الشرط مفقود هنا . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ( فإن قلت ) قوله : ( وبث فيها ) ، عطف على أنزل أم أحيا ؟ ( قلت ) : الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة ; لأن قوله : ( فأحيا به الأرض ) عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعا كالشيء الواحد ، وكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة . ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة ; لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة . انتهى كلامه ، ولا طائل تحته . وكيفما قدرت من تقديريه يلزم أن يكون في قوله : (
وبث فيها من كل دابة ) ضمير يعود على الموصول ، سواء أعطفته على أنزل ، أو على فأحيا ; لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول . والذي يتخرج على الآية ، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله : ( وما أنزل ) ، التقدير : وما بث فيها من كل دابة ، فيكون ذلك أعظم في الآيات ; لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها ، وما أودع في كل شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة ، وذلك من الفيل إلى الذرة ، وما أوجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر . فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر ، لا أنه يجعل منسوقا في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي ، غير أن " أل " عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب ، وإن كان
البصريون لا يقيسونه ، فقد قاسه غيرهم ، قال بعض طيء :
ما الذي دأبه احتياط وحزم وهواه أطاع مستويان
أي : والذي أطاع ، وقال
حسان :
أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن يمدحه ، وقال آخر :
فوالله ما نلتم وما نيل منكم بمعتدل وفق ولا متقارب
يريد : ما الذي نلتم وما نيل منكم ، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى : (
وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ) ، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى : (
والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ) . وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى ، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه ، وقد جاء ذلك في أشعارهم ، قال :
وإن لساني شهدة يشتفى بها وهو على من صبه الله علقم
يريد : من صبه الله عليه ، وقال :
لعل الذي أصعدتني أن تردني إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر
[ ص: 467 ] يريد : أصعدتني به . فعلى هذا القول يكون ( من كل دابة ) في موضع المفعول ، و " من " تبعيضية . وعلى مذهب
الأخفش ، يجوز أن تكون زائدة ، و " كل دابة " هو نفس المفعول ، وعلى حذف الموصول يكون مفعول " بث " محذوفا ، أي : وبثه ، وتكون " من " حالية ، أي : كائنا من كل دابة ، فهي تبعيضية ، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك . ( وتصريف الرياح ) في هبوبها قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا ، وفي أوصافها حارة وباردة ولينة وعاصفة وعقيما ولواقح ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين . وقيل : تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب . وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما يحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنها ما يضر بها ، ولا اعتبار بكبر القلوع ولا صغرها ، فإنها لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلوع وأغرقت .
وقد تكلموا في أنواع الريح واشتقاق أسمائها وفي طبائعها ، وفيما جاء فيها من الآثار ، وفيما قيل فيها من الشعر ، وليس ذلك من غرضنا . والريح جسم لطيف شفاف غير مرئي ، ومن آياته ما جعل الله فيه من القوة التي تقلع الأشجار وتعفي الآثار وتهدم الديار وتهلك الكفار ، وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها ، وسوق السحاب إلى البلد الماحل . واختلف القراء في إفراد الريح وجمعه في أحد عشر موضعا . هذا ، وفي الشريعة وفي الأعراف : ( يرسل الرياح ) ، و (
اشتدت به الريح ) ، و (
وأرسلنا الرياح لواقح ) ، و (
تذروه الرياح ) ، وفي الفرقان : (
أرسل الرياح ) ، (
ومن يرسل الرياح ) ، وفي الروم : (
الله الذي يرسل الرياح ) ، وفي فاطر : (
أرسل الرياح ) ، وفي الشورى : (
إن يشأ يسكن الريح ) . فأفرد
حمزة إلا في الفرقان ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي إلا في الحجر ، وجمع
نافع الجميع ، والعربيان إلا في إبراهيم والشورى ،
وابن كثير في البقرة والحجر والكهف والشريعة فقط . وفي مصحف
حفصة هنا " وتصريف الأرواح " . ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام . وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : (
وجرين بهم بريح طيبة ) . وفي الحديث : "
اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا " . قال
ابن عطية : ; لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة منقطعة ، فلذلك هي رياح ، وهو معنى ينشر ، وأفردت مع الفلك ; لأن ريح اجراء السفن إنما هي واحدة متصلة . ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب ، انتهى . ومن قرأ بالتوحيد ، فإنه يريد الجنس ، فهو كقراءة الجمع . والرياح في موضع رفع ، فيكون " تصريف " مصدرا مضافا للفاعل ، أي " وتصريف الرياح السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله . ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، فيكون المصدر في المعنى مضافا إلى الفاعل ، وفي اللفظ مضافا إلى المفعول ، أي وتصريف الله الرياح .
(
والسحاب المسخر ) ، تسخيره : بعثه من مكان إلى مكان . وقيل : تسخيره : ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه . ووصف السحاب هنا بالمسخر ، وهو مفرد ; لأنه اسم جنس ، وفيه لغتان : التذكير : كهذا وكقوله : (
أعجاز نخل منقعر ) ، والتأنيث على معنى تأنيث الجمع ، فتارة يوصف بما يوصف به الواحدة المؤنثة ، وتارة يوصف بما يوصف به الجمع كقوله تعالى : (
حتى إذا أقلت سحابا ثقالا ) . قال
nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض . فقيل : السحاب يأخذ المطر من السماء ، وقيل : يغترفه من بحار الأرض ، وقيل : يخلقه الله فيه ، وللفلاسفة فيه أقوال . وجعل مسخرا باعتبار إمساكه الماء ، إذ الماء ثقيل ، فبقاؤه في جو الهواء هو على خلاف ما طبع عليه ، وتقديره بالمقدار المعلوم الذي فيه المصلحة ، يأتي به الله في وقت الحاجة ، ويرده عند زوال الحاجة ، أو
[ ص: 468 ] سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد الله تعالى . وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية .
(
بين السماء والأرض ) : انتصاب " بين " على الظرف ، والعامل فيه المسخر ، أي سخر بين كذا وكذا ، أو محذوف تقديره كائنا بين ، فيكون حالا من الضمير المستكن في المسخر . ( لآيات لقوم يعقلون ) : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها ، إذ لو كان يليها ، ما جاز دخولها ، وهي لام التوكيد ، فصار في الجملة حرفا تأكيد : إن واللام . ولقوم : في موضع الصفة ، أي كائنة لقوم . والجملة صفة لقوم ; لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلا ، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى ، وانفراده بالإلهية ، وعظيم قدرته ، وباهر حكمته . وقد أثر في الأثر : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها .
( ومناسبة هذه الآية لما قبلها ) ، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد ، وأنه منفرد بالإلهية ، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار . ثم مع كونها دلائل ، بل هي نعم من الله على عباده ، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل ، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر . لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكنا من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب ، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية ، وإن جعلنا : " وبث فيها " ، على حذف موصول ، كما قدرناه في أحد التخريجين ، كانت تسعة ، وهي باعتبار تصير إلى أربعة : خلق ، واختلاف ، وإنزال ماء ، وتصريف .
فبدأ أولا بالخلق ; لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية ، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف . (
أفمن يخلق كمن لا يخلق ) (
والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ) . ودليل الخلق على جميع الصفات الذاتية ، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة ، وقدم السماوات على الأرض لعظم خلقها ، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك .
ثم أعقب ذكر خلق السماوات والأرض باختلاف الليل والنهار ، وهو أمر ناشئ عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السماوات . ثم أعقب ذلك بذكر الفلك ، وهو معطوف على الليل والنهار ، كأنه قال " واختلاف الفلك " ، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، وهو أمر ناشئ عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض .
ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو إنزال الماء من السماء ، ونشر ما كان دفينا في الأرض بالأحياء . وجاء هذا المشترك مقدما فيه السبب على المسبب ، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم .
ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به ، وهو تصريف الرياح والسحاب . وقدم الرياح على السحاب ، لتقدم ذكر الفلك ، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك .
فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر ، حيث بدأ أولا باختراع السماوات والأرض ، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي ، ثم أتى ثالثا بذكر ما نشأ عن العالم السفلي ، ثم أتى بالمشترك . ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به ، وهو التصريف المشروح .
وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين : قسم مدرك بالبصائر ، وقسم مدرك بالأبصار . فخلق السماوات والأرض مدرك بالعقول ، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار . والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود ، مستدل عليه بالعقول ، فلذلك قال تعالى : ( لآيات لقوم يعقلون ) ،
[ ص: 469 ] ولم يقل : لآيات لقوم يبصرون ، تغليبا لحكم العقل ; إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى .